الفوائد الصحية النفسية للعمل الحر

الوضع الليلي الوضع المضيء

بقلم: Mark Stabile؛ أستاذ الاقتصاد في معهد إنسياد (INSEAD) ٩آب، ٢٠١٩

تُظهِرُ بياناتٌ جرى جمعُها في المملكة المتحدة أن الصحة النفسية للأشخاص الذين يعملون سائقين لدى شركتي أوبر (Uber) و ديليفرو (Deliveroo) جيدة بشكل يثيرُ الدهشة.

على امتداد هذا العالم، يعاني سائقو شركة أوبر (Uber) مخاوفَ مرتبطةً بأجورهم وأمنهم الشخصي، كما يواجهُ العاملون لدى شركة ديليفرو (Deliveroo) منافسةً محمومة، وكذلك الأمر بالنسبةِ لمالكي شركة إير بي إن بي (Airbnb)  الذين لا يخلو عملهم من عقباتٍ تعترض طريقهم في باريس ومدنٍ أخرى. ولكن؛ بدلاً من أن تلاحق أولئك الأشخاصَ المنخرطين في مجال العمل الحر أو الموظفين المؤقتين غيمةٌ سوداء، تكشف بياناتٌ حديثةٌ مفاجئة عن سِمات إيجابيةٍ تخصّ صحتهم النفسية بنسبة تبلغ ٣٣٪.    

وبالنظر إلى كثيرٍ من القصص التي تطرق مسامعَنا، تبدو هذه النتيجة غير منطقية. ولكن، تبيَّن لنا في ورقة بحث أجرته الأستاذة Bénédicte Apouey من كلية العلوم الاقتصادية في باريس – المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) أن موظفي العمل الحر في المملكة المتحدة يحققون نتائج أعلى في معايير الصحة النفسية، من تلك التي يحققها أقرانهم في الاقتصاد التقليدي ونقصد بهم الموظفين الدائمين.

وتشهد نسبةُ العاملين في مجال العمل الحرّ في المملكة المتحدة طفرةً في هذا البلد الذي يشهد نسبةَ بطالةٍ منخفضة (أقل من ٤٪ في العام ٢٠١٩) وكذلك ارتفاعاً كبيراً في الطلب على خدامات الاقتصاد التشاركي. فعلى سبيل المثال؛ صَنَّفت شركةُ الخدماتِ المهنية ديلويت (Deloitte) شركةَ ديليفرو (Deliveroo) كأسرعِ الشركات التقنية نموّا في العام ٢٠١٨. وكذلك الأمر بالنسبة لشركة أوبر (Uber) التي بالرغم من أنها تشهد مشاكل تنظيمية في المملكة المتحدة لكنها ما تزال تُصنَّف شركةً تحقق ارتفاعاً صاروخياً في الأرباح التي تحصد. كما شهد سوقُ شركة إير بي إن بي (Airbnb) في لندن ارتفاعاً بلغ أربعة أضعافٍ منذ العام ٢٠١٥.    

العمل الحر والاعتداد بالذات

يقودنا كلٌّ من الارتفاع الذي يشهده سوقُ العمل الحر وطبيعةُ العملِ الآخذةُ في التغيُّر إلى طرح سؤالٍ مفادُه: ما هو تأثير العمل الحر على المنخرطين فيه؟، أجرينا مطابقةً بين الاتجاهات السائدة على محرك البحث Google (جوجل) والبيانات المأخوذة من دراسةٍ بعنوان: فهمُ المجتمع: دراسة طوليّة للأُسرة في المملكة المتحدة   (Understanding Society: the UK Household Longitudinal Study). ولفهم المجتمعِ بياناتٌ على المستوى الفردي متعلقة بالصحة وبالتركيبة السكانية، كما تتعقبُ عمليةُ فهم المجتمع العملَ الحر المؤقّت مقارنة بالوظيفة التقليدية الدائمة.

وكانتِ المصطلحات التي استخدمناها خلال البحث على جوجل (Google) مرتبطة بشكل رئيسٍ بالعمل الحر في مجالٍ بعينه. وقد عملَ ذلك كمؤشرٍ على العمل الحر لدى كل من شركاتِ أوبر (Uber) و ديليفرو (Deliveroo) و إير بي إن بي (Airbnb). وبمطابقة البيانات بناءً على الموقع الجغرافي، وجدنا أن العاملين في المجال الحر أظهروا قدرةً أفضل على التركيز وثقةً أعلى بالنفس، وكلاهما مهمٌ للصحة النفسية. كما أبلغَ العاملون في المجال الحر عن زيادة في اعتدادهم بأنفسهم وفي مستويات السعادة لديهم.     

وتبدو هذه النتائج التي توصلنا إليها غير متوقعة بالنظر إلى القصص التي قرأنا عنها، ومع ذلك فإننا عندما ننظر إلى الكيفية التي يفيد فيها الاقتصادُ التشاركي عُمّالاً محددين نجد أن تعزيز الثقة بالنفس ومستوى التركيز يعد أمراً ملائماً لهم من دون حاجتهم إلى التقيّدِ بضوابط محددة نجدها في الوظائف التقليدية مثل جداول العمل التي يضعها المُدراء أو الحاجةِ إلى قطع مسافة طويلة بين المنزل ومكان العمل.        

أما بالنسبة للموظفين التقليديين، فينتج عمّا يفرضه عليهم العمل من متطلبات شاقّة، إلى جانب مستوى الاستقلالية المنخفض الذي يتمتعون به، توترٌ مهني يرافقهم على الدوام. وقد يرزحُ موظفو عقود العمل الصفرية، الذين تشهد ساعات العمل لديهم تذبذباً من أسبوع لآخر والذين ليس لديهم أدنى سيطرة على جداول العمل خاصتهم، تحتَ وطأة أشد حتى من الموظفين ذوي العمل المنتظم. وفي المقابل؛ يتمتّع موظفو العمل الحر بحرية اتخاذ القرار المتعلق باختيار الوقت الذي يعملون فيه ولهم كذلك اتخاذ القرارات المتعلقة بعملائِهم وهذا بدوره يقود إلى شعورٍ أعظم لديهم بالسيطرة والتحكم.  

وقد اعتمدنا في تحديد مقاييس الصحة والسلامة على استبيان الصحة العامة ذي الاثني عشر بنداً     General Health Questionnaire)GHQ-12) الذي يقيّم حالة المُجيب الراهنة ويَسألُه عما إذا كانت حاله الراهنة تلك مختلفة عن حاله الاعتيادية. ويتعلق بعضُ الأسئلة بالتركيز وبقلة النوم الناتجة عن القلق وبالشعور بأن الشخص يلعب دوراً فاعلاً أو يواجه مشاكل. وهناك أسئلة أخرى تتحرّى عما إذا كان الخاضع للدراسة غيرَ سعيد أو محبطاً أو تعوزه الثقةَ بنفسه. وتتراوح نتائج المقاييس التي نستخدمها بين صفر (ويمثل أقل مستوى صحة نفسية) وبين ٣٦ (وتمثل أوجَ الصحة النفسية)، أما النقطةُ ٢٤، فتمثلُ الحدَّ الوسطي للصحة النفسية للخاضعين للدراسة. ويزيد العملُ الحر من النتائج التي يحققها الخاضع للدراسة بمعدل ٨ نقاط وهي نتيجة أعلى بنسبة الثلث تقريباً.

ويتمثل أحدُ أكبرِ التغيّرات المتعلقة بالعوامل التي درسنا في المصاريف التي يجري إنفاقها على المشروبات؛ حيث انخفضت تلك المصاريفُ بالنسبة للعاملين في مجال العمل الحر بنسبةٍ مذهلة بلغت ٢٠٠٪. ولكن هذا لا يمثلُ بالضرورة انخفاضاً في استهلاك المشروبات الكحولية، إلا أنه انخفاضٌ في الإنفاق بشكل عام. وغالباً ما يكون سائقو الدراجات الصغيرة لدى شركتي أوبر (Uber) و ديليفرو (Deliveroo) في العمل خلال أوقات تناول الطعام الاعتيادية أو عندما يكون الناس في الحانات؛ أي في الأوقات التي يجري فيها عادةً إنفاق المال على المشروبات الكحولية.  وتلك هي ساعات الذروة بالنسبة للعاملين في المجال الحر والذين لا ريب في أن عليهم أن يكونوا في كامل وعيهم خلال قيامهم بعملهم. ومع ذلك، يمثل هذا اختلافاً جديراً بالملاحظة عندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية، خصوصاً في بلدٍ كالمملكة المتحدة التي يعد فيها إساءة تعاطي المشروبات الكحولية واحداً من أكثر العوامل الكامنة وراء الموت وتدهور الصحة بين أولئك الذين تتراوح أعمارهم ما بين ١٥ و ٤٩ عاماً.     

نتائج متزايدة لمجموعات بعينها

تُظهِر النتائج التي توصّلنا إليها أن النساء والأشخاص غير الحاملين للشهادات الجامعية، وهي فئاتٌ مهمشة عادة في سوق العمل التقليدي، يقدمون أداءً جيداً تحديداً فيما يتعلق بالصحة النفسية. فالنساء اللواتي يعملن في مجال العمل الحر حصلنَ على زيادة قدرها ٩.٦ نقطة وفقاً لاستبيان الصحة العامة ذي الاثني عشر بنداً  General Health Questionnaire)GHQ-12) مقابل زيادة قدرها ٥ نقاط فقط بالنسبة للرجال. فالاقتصاد التشاركي لا يوفر مرونة فقط، بل يؤمِّنُ كذلك رابطاً مباشراً يتيحُ لأولئك العاملين أن يشعروا بأنهم يقدمون مساهمة حقيقية وفورية.

وللنساء بشكل خاص، يقدم العمل الحر مستوى من المرونة التي تتيح لهن العمل بدوام جزئي لا يمكنهنّ القيام به في سوق العمل التقليدي؛ فغالباً ما يكُنّ مسؤولاتٍ عن الاعتناء بأطفالهن وبأقاربهن الطاعنين في السن، وتعد تلك الاستقلالية بالغة الأهمية بالنسبة لصحتهن النفسية. وحتى الآن، لم تتعدَّ النساءُ اللواتي يعملن كسائقاتٍ لدى شركة أوبر (Uber) نسبة ١٤٪ في العام ٢٠١٥ ، وذلك وفقاً لإحصائيات خاصة بالشركة المذكورة.     

تطبيق تجربة العمل الحر على بيئات العمل المكتبية

تشير النتائج الأولية التي استخلصنا إلى أهمية الاستقلالية في مكان العمل. ويقدم اقتصاد العمل الحر للعاملين فرصةً لمزيد من التحكم في أعمالهم، والذي بدوره قد يقود إلى اعتدادٍ أعلى بالذات وثقةٍ أكبر ويخفف من وطأة الضغوط المحيطة بالشخص.  

وليس بخافٍ على أحد أن العاملين المتمتعين بالاستقلالية يكون لديهم ثقةٌ أعلى بالنفس ويعتريهم شعورٌ بأنهم أكثر تحكُّماً وسيطرةً وأنهم أكثر صحة من الناحية النفسية. ويمكن للمدراء أن يطبقوا المرونة في مكان العمل المكتبي بما يؤهل العاملين لأن يغدوا أكثر مسؤولية وثقة فيما يخص قدراتهم على اتخاذ القرارات. وغالباً ما يُشار إلى العمل عن بعدٍ على أنه وسيلةٌ لمنحِ مستوى من الاستقلالية للعاملين. ولكن، ليس أكيداً أن النتائج ستكون سريعةَ التحقق كما هو الحال بالنسبة للعاملين في المجال الحر؛ ولكن ما إن يمنحَ المدراءُ استقلاليةً أكبر لفريق العمل لديهم، فقد يحسِّنُ ذلك من الصحة النفسية لأولئك الموظفين.           

التجربة الأمثل

حصلنا على البيانات التي في حوزتنا والنتائج التي توصلنا إليها من المملكة المتحدة في لحظة محددة بعينها شهدت نسبةَ بطالة منخفضة جداً ووصولاً محدوداً إلى تجربة عمالية مختلفة وتخللها طلبٌ عالٍ جداً على خدمات المشاركة. وفي فرنسا على سبيل المثال؛ هناك مستوى بطالة أعلى بكثير مقارنة بالمملكة المتحدة، ولكن هناك احتمالٌ مفاده أن فئاتٍ أخرى مُهمَّشة تتأثر إيجابياً بسوق العمل الحر.       

ويُعَدّ انخفاضُ مستوى الصحة النفسية مكلفاً لأصحاب العمل، حيثُ تشيرُ دراسةٌ حكومية أجرتها المملكة المتحدة تعود إلى العام ٢٠١٥ إلى أن مشاكل الصحة النفسية هي السبب الكامن وراء ضياع ما مجموعُهُ ١٧.٦ يوماً خلال العمل. ومن المؤكد أن تكلِفةَ مستويات الصحة النفسية المتدنيّة لا تقتصر على المملكة المتحدة وحدها؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية تسودُ تقديراتٌ تبيّن أن ١٩٣ مليار دولارٍ أمريكي تضيع هباءً بسبب الأمراض النفسية الخطيرة.    

وبمعزلٍ عن المقالات درامية الطابع التي تدقُّ ناقوسَ الخطر محذرةً من المساوئ التي يفرزها سوق العمل الحر، ينبغي إيلاءُ اهتمام أكبر للطبيعة المتغيرة للعمل. وقد بدأتِ الدراساتُ الاستقصائية الخاصة بالعمالة تلحق بركب هذه الطريقة الجديدة في العمل، ويحدونا أملٌ في أن نرى مزيداً من الدراسات التي تُجرى في هذا الشأن في المستقبل المنظور. وللعمل الحر تأثيرٌ إيجابيٌّ على الصحة النفسية، وهو تأثير لا توفره عقود العمل الصفرية، بالرغم من القليل من انعدام الأمان الذي يرتبط غالباً بذلك العمل الحر بالتحديد. ولا ينبغي لهشاشة عقود العمل الصفرية التي لا يعلم العمال فيها بجداول عملهم سوى قبل أيامٍ قليلة أن تفسد المكاسب المرتبطة بالصحة النفسية الملحوظة لدى العاملين في المجال الحر.

المصدر: .Insead knowledge

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *