المستقبل المشرق لتجارة التجزئة على الانترنت

الوضع الليلي الوضع المضيء

كيف ستغير التجارة الإلكترونية المدن والوظائف

يعد امتداد "شارع بليكر /Bleecker Street" الواقع في القرية الغربية من منهاتن، من بين أجمل المناطق في نيويورك، حيث واجهات التسوق الغريبة تفتح على الأرصفة المحاطة بالأشجار، فيما كان حتى وقت قريب موقع مكب النفايات عبر نهر هدسون، في نيو جيرسي، من اكثر الأماكن مدعاة للاشمئزاز في المنطقة، ولسنوات تسببت النفايات الخطرة باشتعال الحرائق في القمامة. وبشكلٍ ما يظهر شارع "شارع بليكر /Bleecker Street" بواجهات محلات فارغة، وأصحاب العقارات غير قادرين على العثور على مستأجرين. على الرغم من أنه تم تنظيف الكثير فى نيوجيرسى وتحولت الى مستودع عملاق من قبل شركة "برولوجيس/Prologis" أكبر الشركات العقارات الصناعية في العالم. واكتمل المشهد العام بالتخلص من النفايات الكيماوية ودخول الكثير من الشاحنات.

لم تطمس التجارة الإلكترونية جميع تجارة التجزئة التقليديين، فستبقى المتاجر المميزة بطريقة أو بأخرى - لأنها تقدم خدمة ممتازة، على سبيل المثال، أو منتجات فريدة من نوعها. ولكن مايدعو إلى النظر في التغيير الذي بدأ بالفعل في أمريكا هو امتلاك التجارة الالكترونية حوالي عُشر ما يُنفق في البيع بالتجزئة. وإذا كانت تلك الحصة سترتفع إلى الخُمس، ناهيك عن ثلثها، فإن الآثار ستكون أكبر بطبيعة الحال. وعلى المدى الطويل فإن تأثير التجارة الإلكترونية لن يقتصر على صناعة التجزئة التقليدية التي بدأ يحل محلها شيئاً فشيئاً، بل سيتبع ذلك تغيّر عادات الإنفاق لدى المستهلك وطريقة سير أيامهم، والذي سيؤثر على المشهد العام للتجارة وتغيّر حياة العاملين في هذا المجال، ويعيد تشكيل وجهة نظر الحكومات بشأن قوة الشركات.

وبالنسبة للمستهلكين، فقد وصلت التجارة الالكترونية عصرها الذهبي الآن، حيث يمكنهم الاختيار من بين المزيد من المنتجات ذات الجودة الأفضل من أي وقت مضى، وقضاء وقت وجهد أقل بكثير للحصول على ما يريدون. فالشركات المصنعة يتوجب عليها التنافس بشراسة للحصول على صفقات تجارية. وهو ما يبرر قوة أمازون وشعبيتها في أمريكا. وفي المقابل؛ ستتضاعف السلبيات لاسيّما فيما يتعلّق بخصوصية المستهلك وتتبّع ممارساته على الانترنت، في المنزل، وفي المحلات التجارية حيث سيزيد الأمر أكثر من أي وقتٍ مضى. حيث يعلّق " مارك روتنبرغ/Marc Rotenberg" –رئيس مركز خصوصية المعلومات الإلكترونية– " إن الشركات تبرر ما تقوم به بأنها تقوم بجمع معلومات وبيانات جماعية ومجهولة الهوية من خلال عمليات التتبع، إلا أن أساليبها غير شفافة. ففي جوهرها، تخبر الشركات المستهلكين بأننا "سوف نهتم بها"، وهذا غير كافٍ.

ظهور آثار التجارة الإلكترونية على المشهد العام يعدّ مجرد بداية، وحتى الآن، كانت أبرز التغيرات في البلدان الغنية، ولا سيما في أمريكا. فالإعلانات الأخيرة من إغلاق عدد من متاجر "مايسيز/Macy’s"، و"قاب/Gap"، و"أميريكان إيقل/American Eagle" وغيرها، وهناك الكثير مما سيتبعها. ووفقاً لشركة "جرين ستريت أدفيسورس/ Green Street Advisors " للاستشارات العقارية فإن مبيعات المتاجر لا تزال تتقلص بشكل أسرع من مساحة بيع المخازن نفسها.

ومع عدم ثبات الطلب على المحلات التجارية، فإن الطلب على المستودعات مايزال على ارتفاع. وتشير تقديرات "سيتي/Citi" إلى أن مساحة التخزين الجديدة التي تبلغ مساحتها 2.3 مليار قدم مربع (214 مترا مربعا)، أي ما يعادل نحو 20 ألف ملعب كرة قدم، ستكون مطلوبة في جميع أنحاء العالم خلال العشرين عاماً القادمة. ولكن ما الذي سيحدث للمحلات التي لم يعد لديها ما يكفي من العملاء، وأين سوف تذهب المستودعات الجديدة؟ ليس هناك طريقة سهلة للتحوّل من واحد إلى آخر. وتريد الشركات بناء مستودعات قريبة من مراكز المستهلكين، ولكن هناك احتمالات كبيرة لإغلاق المراكز التجارية. وبناء عليه، من المحتمل أن يتم بناء المستودعات بالقرب من المشاريع السكنية، التي يُتنافس عليها بالفعل. فعلى سبيل المثال؛ يتم بناء مراكز الخدمات اللوجستية والمنازل الجديدة جنبا إلى جنب  في منطقة"إنفيلد/Enfield" في شمال لندن. وبما أن الأرض شحيحة ومكلّفة، فإن المستودعات سوف تُبنى بشكل طولي، كما يحصل الآن في آسيا. أما فيما يخصّ عمليات التسليم في نفس اليوم، فسترتفع مراكز التوزيع الأصغر حجماً بالقرب من المناطق التجارية المركزية، مع احتمالية ارتفاع الإيجارات.

وماذا عن استديوهات الدراجات؟

لربما لا يبدو مستقبل متاجر التجزئة التقليدية مؤكداً، وربما سيصمد العديد منها في المدن الكبرى، وبعدد أقل كمراكز مبيعات من صالات العرض. قد تنخفض الإيجارات بالنسبة لهم، وهو ما يحدث فعلياً في أمريكا وفي كثير من آسيا، وفقا لوكالة "سي بي آر إي/ CBRE" للعقارات. فمساحة واحدة في وسط مانهاتن التي كان يحتلها سابقاً تجار تجزئة الملابس تحتوي الآن على مقهى، شباك لبيع العصائر، واستوديو الدراجات. ولكن قد لا يكون هناك ما يكفي من هؤلاء لملء كل مساحة التجزئة التي ستصبح شاغرة في السنوات المقبلة. وفي المناطق التي لا يوجد فيها سوى القليل من الطلب من القطاع الخاص، قد تضطر الحكومات إلى التدخل . فعلى سبيل المثال؛ أصبحت إحدى المتاجر الكبيرة في كليفلاند بولاية أوهايو مركزاً مجتمعياً، مع صالة رياضية ومكاتب لموظفي المدينة، بتمويل من السندات البلدية.

وثمة موضوع أكثر سخونة؛ هو تأثير كل هذا على العمالة. وحتى الآن يبدو أن الانخفاض في وظائف التجزئة التقليدية في أمريكا يقابله ارتفاع في أعمال التخزين. فبين عامي 2007 و 2017 تقلص عدد وظائف التجزئة بمقدار 140 ألف وظيفة بينما ارتفع عدد العاملين في التجارة الإلكترونية والتخزين بنحو 400 ألف وظيفة، ووفقاً لما ذكره "مايكل ماندل/ Michael Mandel" من معهد "بروقريسيف بوليسي/Prgoressive Policy" للأبحاث. إلا أن صافي الربح في الوظائف قد يكون مؤقتاً. فالمخازن بدأت في الإغلاق، وبدأت الكثير من الشركات الاستثمار في أتمتة أعالها، وربما يزيد استخدام الروبوتات في المستودعات حيث تنخفض تكاليفها وتحسن مهارات عملها.

في المقابل، ربما لا يكون الأمر سيئاً إلى هذا الحد، ففي أمريكا كانت أجور العاملية في محلات التجزئة ثابتة لمدة ثلاثة عقود. وسيؤدي التغيير التكنولوجي إلى تحسين الإنتاجية وخلق أنواع جديدة من العمل، ومن المرجح أن تكون الوظائف المستمرة ذات أجور أفضل. إلا أن العمال بحاجة إلى مهارات جديدة بما أن المتاجر والمحلات تحاول خلق المزيد من الإقبال.

والسؤال الذي يلوح في الأفق حول كل ذلك؛ هل ستتدخل الحكومات؟ فالقادة الصينيون قد يرغبون بممارسة المزيد من السيطرة على عمالقة التكنولوجيا القوية. ووفقاً لتقرير واحد، فإن الدولة تدرس استثماراً مباشراً في بعضها. بينما في أمريكا، فإن دونالد ترامب يضع نشاطات أمازون نصب عينه لاسيّما الطريقة الخاصة التي تُعامل بها من الناحية الضريبية. فأمازون تدفع الرسوم الضريبية للمبيعات لكل فرع تملكه في كل ولاية أمريكية. فيما تقيّم هيئة مكافحة الاحتكار الشركات القائمة بناء على مراقبة السوق، حتى لا تبدو أمازون مسيطرة على السوق وحدها، كما تدرس التأثير على المستهلكين، الذين حتى الآن يبدو أنهم المستفيدون فقط. ولكن، من المرجّح زيادة التدقيق في أمريكا، على الرغم من أن المخاطر التنظيمية على أمازون ربما تكون خارج أمريكا لا داخلها. ففي أكتوبر الماضي أمرت المفوضية الأوروبية أمازون بسداد الضرائب، فيما فُرضت على قوقل مؤخراً غرامة بقيمة 2.4 مليار يورو (2.8 مليار دولار) لاستخدام قوتها كمحرك بحث لتعزيز نشاطها التجاري في مجال المقارنة، مع توقّع اتخاذ المزيد من الإجراءات ضد منصات التجارة الإلكترونية مستقبلاً.

ومع ذلك، وبغض النظر عن أي تدخل دراماتيكي، لاتزال أكبر مواقع التجارة الإلكترونية تنمو أكبر وأكبر. أمازون و"علي بابا" تخلقان سلالة جديدة من التكتل القائم على تأثيرات العلاقات والشبكات، فكلما زاد عدد المتسوقين من الشركات، زاد عدد الباعة الذين يجذبونهم، مما يجذب المزيد من المتسوقين. وتولّد هذه الآثار بتوسّع أعمالهم، والكمية الهائلة من البيانات التي تولّدها. وهذا لا يعني أنها سوف تهيمن على كل قطاع أو سوق، ولكن مجرد وجودها في صناعة أعاد تشكيلها بأكمله. والسؤال ليس هو ما إذا كانت ستُبقي على البيع بالتجزئة والتصنيع والخدمات اللوجستية، فأي صناعة وجزء من المجتمع سيغيرونه في المستقبل.

المصدر: الايكونوميست

اترك رداً على daftar bandarq إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *