جنون التسوّق : تجارة التجزئة على الانترنت تضرّ المتاجر التقليدية
التغيرات المؤلمة التي تمرّ بها المحلات التقليدية
حينما اجتمع رؤساء ومالكي محلات التجزئة الأمريكيين في نيويورك بداية العام الحالي ضمن اجتماعهم السنوي لاتحادهم التجاري –الاتحاد الوطني للبيع بالتجزئة– دار الكثير من الحديث عن التقنيات الجديدة لتحسين آفاق الصناعة، كأجهزة الاستشعار التي تقرأ تعبيرات وجوه المستهلكين، والتعلم الآلي للبرمجيات التي يمكنها تحسين الأسعار. إلا أن شبحاً ما كان حاضراً دون أن يتحدّث؛ إنها أمازون.
مرّت تجارة التجزئة التقليدية بوقت عصيب في الآونة الأخيرة، وتراجعت حركة المرور في مراكز التسوق في أكبر أسواق أوروبا. أما في أمريكا، التي تملك حوالي خمسة أضعاف من مساحات مراكز التسوق لكل شخص كما في بريطانيا، فإن الأمر أصعب عليها. فالعلامات التجارية والمحلات التي كانت تعاني تعثراً حتى قبل صعود أمازون تجد نفسها الآن في متاعب أكبر؛ وبدأت مجموعة منها في إغلاق محلاتها، كما حدث مع "مايسيز/Macy’s" التي أعلنت العام الماضي إغلاق 100 متجر من مجموع محلاتها الـ 728، فيما تتوقع شركة "فونغ قلوبال لمحلات التجزئة والتقنية/Fun Global Retail & Technology" إغلاق ما يقرب من 10 آلاف متجر في أمريكا هذا العام، والذي يعني زيادة قدرها 50٪ عما كانت عليه في ذروة الأزمة المالية في عام 2008، وسيزيد ذلك الأمر مستقبلاً.
في السابق؛ كانت المحلات التجارية تننافس من خلال تقديم مجموعة من الخيارات، والأسعار، الخدمات، وراحة العميل. وترجّح كفة التجارة الإلكترونية مقارنة بها في مجموعة الخيارات والراحة، فحتى أكبر متجر تقليدي لا يمكنه منافسة أمازون فيما تعرضه من بضائع أو خدمات. وفي الوقت الذي أغرقت فيه "وول مارت/Walmart" الأسواق الأمريكية بتوفيرها بضائع منخفضة الثمن وتوفير أموالهم بالتالي، فإن أمازون تقوم بالشيء ذاته من خلال توفير وقت المتسوقين. ومهما كانت تجربة التسوق ممتعة والخدمة المثالية التي توفّرها محلات "قوتشي/Gucci" مثلاً، فإن الانتظار للدفع في طوابير السوبرماكت ليس ممتعاً أبداً.
ومع استمرار نموّ تجارة التجزية على الانترنت، فإن شركات التجارة الإلكترونية تتنافس فيما بينها على أنواع جديدة من الخدمات والتسعير. يعرف الموقع الإلكتروني الكثير عن المستهلك مقارنة بأي بائع في متجر تقليدي، مما يتيح له تقديم توصيات شخصية فورية بناءً على عاداتك الشرائية، ويمكن للمتسوقين على الانترنت مقارنة الأسعار بسهولة بين عدة منصات متاجر إلكترونية. وما يهمّ التجار بشكل أكبر هو تمكّنهم من تغيير الأسعار صعوداً وهبوطاً لتتناسب مع عروض المنافسين. كما يمكنهم تغيير الأسعار بناءً على العادات الشرائية لمستهلك بحدّ ذاته، فقد تمكنت"علي بابا" و "جي-دي دوت كوم/JD.com" استخدما حزمة من البيانات لتقديم خصومات على منتجات معينة لعدد من عملائهما.
يعني ذلك ببساطة عرض خيارات واسعة من السلع أمام المستهلك عبر الانترنت. وهو ما ساهم في إحداث تغيير شامل في أمريكا مع تغيّر العادات الشرائية للمستهلك بتفضيله التجارة الإلكترونية عِوضاً عن التنقل بين المحلات التجارية التقليدية، على الرغم من أن مجموعة منهم لا تزال تشتري سلعاً معينة من المحلات التجارية التقليدية. أجبر هذا الأمر إلى تغيّر الطريقة التي تتبعها المحلات التجارية في عمليات البيع والتسويق تلبية لطلب المستهلك، فاتّجه كثير منها إلى البيع الالكتروني وإنشاء محلاتها الإلكترونية لتمويل وموازنة الدخل من محلاتها التجارية التقليدية. وقد لا يبدو أمراً مثالياً على المدى القصير؛ فبناء أعمال التجارة الإلكترونية على رأس الأعمال التقليدية أمر مكلف؛ حيث يجب على الشركات إنشاء مواقع ويب وشحن المنتجات للمستهلكين، بدلاً من تخزينها بكميات كبيرة.
ومما يصعّب الأمر على البائع من خلال أمازون هي فكرة "التوصيل المجاني" التي أتاحتها للمستهلك وجعلتها أمراً مسلّماً به، بالإضافة إلى أن البيع على الانترنت، وهو ما يزيد من تدمير المحلات التجارية التقليدية القائمة. وهذا ما جعل المحللين في مورغان ستانلي/Morgan Stanly يعتقدون أن لكل نقطة مئوية تُحرز لصالح التجارة الالكترونية تقابلها انخفاض في الأرباح بنسبة نصف نقطة لدى المحلات التجارية التقليدية. لاسيّما وأنه يصعب على المحلات التجارية التقليدية توظيف عامل تقني، حيث يرى علماء التقنية صعوبة الأمر وربما استحالته بما أن عليهم عرض الكثير من الفوائد الوظيفية لإغراء الموظفين التقنيين المهرة، وهو ما لا تواجهه أمازون في المقابل.
من جهة أخرى؛ تقدم الشركات الناشئة، وشركات التقنية والاستشارية أدوات لمساعدة صغار تجار التجزئة لمواكبة التغيير، والبعض منها يعد بتقديم حلول لتصغير الفجوة بين مواقع التجارة الإلكترونية والمحلات التجارية التقليدية للتعرف على عملائها والمستهليكين بشكل أفضل. تصبّ هذه الحلول عبر أرضيات يمكنها قياس حركة المرور في المتاجر، وتحليلات بالفيديو لمعرفة أعمار المتسوقين والجنس والمزاج الشرائي، كما يمكنها جمع معلومات عما فعله المستهلك في المحل بمجرد التسجيل في خدمة الواي الفاي المجانية. ومازال العديد من الشركات الأمريكية مترددة في الاستثمار في هذه التكنولوجيا الجديدة باهظة الثمن للمحلات التجارية التي قد لا يستمرّ بقاؤها لفترة أطول من ذلك بكثير.
بينما في الصين، تقدم الشركات الاستشارية حلولاً لعلاج مشاكل تجار التجزئة مع شركات التجارة الإلكترونية الكبيرة، وهو ما سيفيد الكثير من محلات التجزئة لاعتمادها على الانتشار الواسع التي حققتها منصات التجارة الالكترونية الكبيرة. ففي الغرب على سبيل المثال؛ يدفع تجار التجزئة مقابل إلحاق قائمة بمنتجاتها في موقع أمازون وتخزين منتجاتها في مستودعاتها، وتوصِلهم بعدد أكبر من المستهلكين، في المقابل تكسب أمازون من خلال الرسوم المطلوبة مقابل تلك الخدمات. أما تجار التجزئة الكبار فلا يبدو أنهم يفضّلون التعامل مع أمازون، كما حدث مع علامتي "تارجيت/Target" و"تويز آر أص/Toys “R” US" اللتين اختارتا أمازون لتجارتيهما الالكترونية في أوائل العقد الحالي، إلا أنهما أنهيا تلك الشراكة. وعلى عكس "علي بابا" فإن أمازون تملك معظم ما تبيع، وهو ما جعلها تتنافس مباشرة مع أي بائع يستخدم خدماتها.
في المقابل، وعلى الرغم من كل تلك المشاكل، فهناك أمثلة على محلات تجارية تقليدية ازدهرت في الآونة الأخيرة، تتمثل استراتيجياتها في تقديم منتجات مميزة غير متوفرة في مكان آخر، مثل سلسلة محلات زارا/ Zara للملابس والمملوكة لشركة "إنديتكس/Inditex"، أو من خلال بيع منتجات يصعب بيعها عبر الانترنت. وتتمثّل الطريقة الأخرى في خلق تجربة تسوّق فريدة للمستهلك، كالتي تقدمها شركة "تي جي إكس/TJX" من خلال بيع السلع التي تنتجها المصانع بكثافة –من خلال سياسة الإغراق– بأسعار رمزية وعروض مغرية. أو الخيار الآخر وهو تقديم تجربة تسوّق مرفّهة كما في "لوي فيتون/Louis Vuitton" بتقديم الشمبانيا للمتسوّقين، أو الاستشارات الخاصة التي يجدها المستهلك في محلات "نايكي/Nike" للأحذية.
تربّعت "وول مارت/Walmart" عرش التجارة تجارة التجزئة الأمريكية في فترة ما، وقد كان صعوداً جريئاً مضاداً، ولم يعد بإمكانه ببساطة فتح متاجر لتعزيز النمو؛ فحوالي 90 في المئة من الأميركيين يعيشون بالفعل في غضون عشرة أميال من "وول مارت/Walmart". لذلك تسعى الشركة لحماية مكاسبها التجارية من خلال جعل المتاجر أكثر كفاءة بتوفير 7 مليون دولار عن طريق طباعة إيصالات أقصر، على سبيل المثال، من خلال الاستثمار عبر الإنترنت. وفي العام الماضي أنفقت حوالي 3.3 مليار دولار لشراء موقع التجارة الالكترونية "جيت دوت كوم/Jet.com" الذي أسسه "مارك لور/Mark Lore"، وهو المشرف الآن على مجموعة الأعمال التجارية لـ"وول مارت/Walmart" على الإنترنت. وهو بطبيعة الحال لا يحاول مطابقة اتساع أمازون، من خلال تركيزه على كون ""وول مارت/Walmart" للبيع بالتجزئة. ولكن "وول مارت/Walmart" تحاول اللحاق بأمازون بطرق أخرى، حيث تقدم الشركة الآن الشحن المجاني خلال يومين، وهو ما يماثل الشراكة التي قامت بها "جي دي/JD" مع "تِنسِنت/Tencemt" للمساعدة في تحدي "علي بابا". وقد تنجح "وول مارت/Walmart" من خلال الشراكة مع عمالقة التكنولوجيا، فقد أعلنت في أغسطس الماضاي أنها ستبيع من خلال المساعد الصوتي لقوقل، في محاولة لمواجهة اليكسا التي تملكها أمازون.
كما تستخدم "وول مارت/Walmart" شبكة واسعة من المتاجر للقيام بكل ما لا تستطيع أمازون الإيفاء به. ففي تجربة واحدة يقوم موظفو "وول مارت/Walmart" بتوصيل طلبات العملاء في طريق عودتهم إلى منازلهم. وباعتبارها أكبر محلات البقالة في أميركا، فقد طورت طريقة سهلة للعملاء لطلب قائمة المشتريات عبر الإنترنت، ثم التوجه إلى "وول مارت/Walmart" يحملها الموظفون إلى سيارات العملاء.
وحتى مع التغيّرات التي تحدثها "وول مارت/Walmart" لا تزال أمازون تتغير من خلال استخدام مكينات التعلم لقياس نضوج فاكهة الخوخ مثلاً، وتحديد مخزونها من القمصان الزرقاءوأحجامها. فالابتكار المستمر يعطيها ميزة تنافسية ضخمة مع العديد من تجار التجزئة الذين عليهم السعي بحيثية لمجاراة هذا التنافس. فالكثير من المحلات التجارية التقليدية تفتقد إلى الاستراتيجية أو البضائع المميزة التي قد تساعدهم على الازدهار في عصر التجزئة الجديد. وفي الأساس فإنها لا تزال تعتمد على مجيء العملاء إلى محلاتهم لاختيار مشترياتهم، في حين أن منافسيهم يقومون بعمليات الشحن والتسليم.
المصدر: الايكونوميست
اترك تعليقاً