النظام العالمي الجديد: العمالة ورأس المال، وأفكار في قانون اقتصاد القوة

الوضع الليلي الوضع المضيء

خلقت التطورات الأخيرة في مجال التقنية سوقاً عالمية موحد للعمالة ورأس المال بشكل متزايد، فقدرة كل منهما على تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستخدام، بغض النظر عن موقعهما، جعلت من أسعارهما متعادلة في جميع أنحاء العالم، وفي السنوات الأخيرة، ساعد هذا التعادل في الأسعار الدول التي تمتلك وفرة في العمالة الرخيصة والدول التي تستطيع توفير رأس المال الرخيص، وقد أشار البعض إلى أن العصر الحالي الذي يتميز بالتقدم التقني السريع قد خدم العمالة، في حين جادل البعض الآخر بأن ذلك قد خدم رأس المال، ولكن ما استهان به كلا الطرفين هو حقيقة أن التقنية لم تقم فقط بدمج المصادر الموجودة من العمالة ورأس المال، ولكنها قامت أيضاً بخلق مصادر جديدة.

بدأت الآلات مؤخراً تستبدل المزيد من أنواع العمالة البشرية أكثر من أي وقت مضى، ومع تكرارها لنفسها، فهي أيضاً تخلق المزيد من رأس المال، وهذا يعني أن الفائز الحقيقي في المستقبل لن يكون مقدمي العمالة الرخيصة أو أصحاب رؤوس الأموال العاديين، فالآلات ستقلص دورهما بشكل متزايد، وسيصاحب الحظ بدلاً من ذلك مجموعة ثالثة، وهي المجموعة التي يمكنها أن تبتكر وتصنع منتجات، وخدمات، ونماذج أعمال جديدة.

إن توزيع الدخل لهذه الفئة الإبداعية عادة ما يأخذ شكل قانون القوة، حيث يأخذ عدد قليل من الفائزين معظم الأرباح ليبقى صف طويل يتألف من بقية المشاركين في الانتظار، لذلك، في المستقبل، ستكون الأفكار هي المدخلات الحقيقية النادرة في العالم – التي ستكون نادرة أكثر من العمالة ورأس المال – والقلة التي ستقدم الأفكار الجيدة هي من ستجني الأرباح الضخمة، لذلك فإن ضمان مستوى مقبول من المعيشة بالنسبة للبقية وبناء اقتصادات ومجتمعات شاملة سيشكل تحديات ذات أهمية متزايدة في السنوات المقبلة.

آلام المخاض

إذا ما قمت بقلب هاتفك الأي فون، سيكون بإمكانك قرأة خطة عمل مكونة من ثماني كلمة كانت ناجحة بشكل كبير بالنسبة لآبل أيضاً على الوجه الخلفي للجهاز، وهي "صمم من قبل شركة آبل في كاليفورنيا، وتم تجميعه في الصين"، فمع رأس مال سوقي بلغ أكثر من 500 مليار دولار، أصبحت شركة أبل الشركة الأكثر قيمة في العالم، ولم تكن متغيرات هذه الإستراتيجية ناجحة فقط بالنسبة لشركة آبل وغيرها من الشركات العالمية الكبيرة، بل نجحت أيضاً بالنسبة للشركات المتوسطة، وحتى بالنسبة "للشركات متعددة الجنسية الصغيرة"، كما أن المزيد من الشركات بدأت بالاستفادة من هاتين القوتين العظيمتين في عصرنا- وهما التقنية والعولمة - لتحقيق الأرباح.

لقد سرعت التقنية من تقدم العولمة، حيث أنها خفضت من تكاليف الاتصالات والتعاملات بشكل كبير، ودفعت العالم نحو التحول إلى سوق عالمية كبيرة واحدة كي تتمكن العمالة ورأس المال وغيرها من مدخلات من الإنتاج، وعلى الرغم من أن العمالة ليست بالعامل الذي يسهل نقله بشكل كامل، إلّا أنه أصبح بالإمكان نقل العوامل الأخرى بشكل متزايد، ونتيجة لذلك، أصبح بإمكان المكونات المختلفة من سلاسل التوريد العالمية أن تنتقل إلى موقع العمل دون الكثير من الاحتكاك أو التكلفة، فحوالي ثلث السلع والخدمات في الاقتصادات المتقدمة أصبحت قابلة للتداول، وهذا الرقم آخذ في الارتفاع، كما أن تأثير المنافسة العالمية بدأ يمتد إلى الجزء غير القابل للتداول من الاقتصاد، في كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية.

خلق كل هذا فرصاً أكبر للكفاءات والأرباح، وأيضاً للانتقالات الهائلة، فإذا كان العامل في الصين أو الهند يستطيع أن يؤدي ذات العمل الذي يؤديه العامل في الولايات المتحدة، فإن قوانين الاقتصاد تقول بأنهم في نهاية المطاف سيتقاضون أجوراً مماثلة، وهذا خبر سار بالنسبة للكفاءة الاقتصادية الشاملة، وبالنسبة للمستهلكين، وللعاملين في البلدان النامية، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للعمال في البلدان المتقدمة الذين يواجهون حالياً منافسة منخفضة التكلفة، حيث تشير الأبحاث إلى أن القطاعات القابلة للتداول من الدول الصناعية المتقدمة لم تخلق فرص عمل صافية لمدة عقدين من الزمن، وهذا يعني أن خلق فرص العمل يجري حالياً وبشكل شبه حصري داخل القطاعات الكبيرة غير القابلة للتداول، والذي تنخفض نسبة أجورهم نتيجة لزيادة المنافسة من العمال الذين انتقلوا من القطاع القابل للتداول.

ولكن مع استمرار العولمة، فإن واحدة من أكبر الأمور ستبدأ بالتكشف، وهي الأتمتة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطباعة الثلاثية الأبعاد وهلم جرا، وهذا الأمر يتجاوز العامل الأول، حيث تقع أعظم آثاره السلبية على العمال غير المهرة نسبياً في الدول النامية.

إذا ما زرتم مصنعاً في مقاطعة قوانغدونغ الصينية، على سبيل المثال، سترون الآلاف من الشباب يعملون يومياً على مهمات متكررة وروتينية، مثل توصيل جزئين من لوحة المفاتيح، ولكن مثل هذه الوظائف أصبحت نادرة الآن، إن لم تكن معدومة، في الولايات المتحدة أو في أي دولة أخرى من دول العالم الغني، وقد لا تستمر في الوجود لفترة طويلة في الصين وبقية العالم النامي أيضاً، لأنها تتضمن مهاماً يمكن أن يكون من السهل تأديتها من قبل الروبوتات، فمع تدني أسعار الآلات الذكية وتطورها لتصبح أكثر قدرة، سوف يتم استبدال العمال البشر بها على نحو متزايد، ولا سيما في البيئات المنظمة نسبياً مثل المصانع التي تتضمن مهام يتم القيام بها بشكل روتيني ومتكرر، وبعبارة أخرى، فإن استخدام العمالة الخارجية عادة ما يكون مجرد محطة على طريق الوصول إلى الأتمتة.

هذا سيحدث حتى في الأماكن التي تتوافر فيها العمالة  الرخيصة، ففي الواقع، توظف فوكسكون، وهي الشركة الصينية التي تقوم بتجميع أجهزة الآي فون والآي باد، أكثر من مليون عامل منخفض الأجر - ولكن الآن، فإنها تكمّلهم وتستبدلهم بجيش متزايد من الروبوتات، فحتى بعد أن انتقلت العديد من وظائف التصنيع من الولايات المتحدة إلى الصين، يبدو بأنها بدأت تختفي كذلك من الصين، (من الصعب الحصول على بيانات موثوقة عن هذا التحول، فالأرقام الصينية الرسمية تفيد بانخفاض قدره 30 مليون وظيفة صناعية منذ عام 1996، أو ما يعادل 25% من المجموع العام، وذلك حتى بعد أن ارتفع ناتج الصناعات التحويلية بنسبة تزيد على 70%، ولكن جزءاً من هذا الانخفاض قد يعود إلى التغييرات في أساليب جمع البيانات)، وبالإضافة إلى ذلك، فمع توقف البحث عن العمالة الرخيصة، سوف ينجذب التصنيع نحو السوق النهائية، لأن ذلك من شأنه أن يضيف إلى القيمة من خلال تقصير أوقات التسليم، وخفض تكاليف التخزين، وما شابه ذلك.

إن تنامي قدرات الأتمتة بدأت تهدد واحدة من الإستراتيجيات الأكثر موثوقية التي كانت الدول الفقيرة تستخدمها لجذب الاستثمار الخارجي، وهي تقديم أجور منخفضة للتعويض عن مستويات الإنتاجية والمهارات المنخفضة، وهذا الاتجاه سيمتد إلى ما بعد التصنيع، فعلى سبيل المثال، نظم الاستجابة الصوتية التفاعلية، بدأ يحد من الحاجة إلى وجود تفاعل مباشر من شخص إلى آخر، ويحل مشاكل مراكز الاتصال في العالم النامي، وبالمثل، فإن برامج الكمبيوتر التي يمكن الاعتماد عليها ستتدخل في عملية التفريغ الصوتي التي يتم القيام بها الآن في كثير من الأحيان في الدول النامية، وفي العديد من المجالات الأخرى، ستصبح الآلات الذكية والمرنة هي المصدر الأكثر فعالية من حيث التكلفة وليس البشر من ذوي الأجور المتدنية في البلدان الأخرى.

عقوبة الإعدام

إذا لم تعد اليد العاملة الرخيصة والوفيرة الطريقة الواضحة للتقدم الاقتصادي، فما هي إذاً؟ تشير إحدى المدارس الفكرية إلى المساهمات المتزايدة لرأس المال، أي الأصول المادية والمعنوية التي تتحد مع العمالة لإنتاج السلع والخدمات في الاقتصاد (المعدات والمباني، وبراءات الاختراع، والعلامات التجارية، وهلم جرا)، وكما أشار الخبير الاقتصادي توماس بيكيتي في كتابه الأكثر مبيعاً "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، فإن حصة رأس المال من الاقتصاد تميل إلى النمو عندما يكون معدل عائدته أكبر من المعدل العام للنمو الاقتصادي، وهو الوضع الذي يتوقع حدوثه في المستقبل، وستزداد سرعة "تعميق رأس المال" الذي توقعه بيكيتي مع تزايد استبدال الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر والبرمجيات (وكلها أشكال من رأس المال) للعمال البشر، حيث تشير الأدلة إلى أن مثل هذا الشكل من أشكال التغيير التكنولوجي القائم على رأس المال تجري حالياً في الولايات المتحدة وحول العالم.

يبدو بأن التقسيم الثابت تاريخياً بين حصة إجمالي الدخل القومي الموجه إلى العمالة والموجه إلى رأس المال المادي قد تغير بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، فكما يشير الاقتصاديون سوزان فليك وجون جلاسر وشون سبراغ في تقرير المراجعة الشهرية للعمالة لعام 2011 المقدم من قبل مكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العمالة، فقد بلغ متوسط حصة العمالة 64.3% من عام 1947 إلى عام 2000، بينما انخفضت حصة العمالة خلال العقد الماضي، لتهبط إلى أقل مستوياتها في الربع الثالث من عام 2010، بنسبة 57.8%، كما أن التحركات الأخيرة لإعادة عملية الإنتاج إلى الداخل، بما في ذلك قرار أبل في إنتاج كمبيوتر "ماك برو" الجديد في ولاية تكساس، بالكاد ستساهم في عكس هذا الاتجاه، فمن أجل أن تكون ذات قيمة اقتصادية، سيكون على هذه المرافق الصناعية المحلية أن تكون آلية لأقصى درجة.

تشهد البلدان الأخرى اتجاهات مماثلة أيضاً، فقد وثق الاقتصاديان لوكاس كارباربونيس وبرنت نيمان انخفاضاً كبيراً في حصة العمالة من الناتج المحلي الإجمالي في 42 بلداً من أصل 59 قاما بدراستها، بما في ذلك الصين والهند والمكسيك، وفي وصف النتائج التي توصلوا إليها، صرح كارباربونيس ونيمان بأن التقدم الحاصل في التكنولوجيات الرقمية شكل عاملاً هاماً في الوصول إلى هذه الظاهرة: حيث قالا "إن الانخفاض النسبي في أسعار السلع الاستثمارية، والتي غالباً ما تنسب إلى التقدم في تكنولوجيا المعلومات وعصر الكمبيوتر، نتج عنه تحول الشركات بعيداً عن العمالة باتجاه رأس المال، لذلك فإن انخفاض أسعار السلع الاستثمارية يوضح ما يقرب من نصف التراجع الملحوظ في حصة العمالة".

ولكن إذا كانت حصة رأس المال من الدخل القومي آخذة في الازدياد، فقد يتعرض الاستمرار في هذا الاتجاه في المستقبل لتهديد ظهور تحد جديد لرأس المال، ولن يكون هذا التهديد من قبل قطاع العمالة البشريين، وإنما من وحدة ذات أهمية متزايدة في صفوفها، وهي رأس المال الرقمي.

في السوق الحرة، تذهب أكبر الأقساط إلى أندر المدخلات اللازمة للإنتاج، ففي عالم يمكن فيه استنساخ رأس المال مثل البرمجيات والروبوتات بثمن بخس، سوف تميل قيمته الهامشية للانخفاض، حتى وإن تم استخدام القسم الأكبر منه في المجموع الكلي، ومع إضافة المزيد من رأس المال إلى الهامش دون الكثير من التكلفة، فإن قيمة رأس المال الفعلية ستنخفض، فعلى عكس المصانع التقليدية، على سبيل المثال، يمكن إضافة العديد من أنواع رؤوس الأموال الرقمية بثمن بخس للغاية، حيث يمكن نسخ وتوزيع البرمجيات دون أي تكلفة إضافية، كما أن العديد من عناصر أجهزة الكمبيوتر، التي تحكمها متغيرات قانون مور، ستصبح أرخص بشكل أسرع ومستمر مع مرور الوقت، لذلك وباختصار، فإن رأس المال الرقمي يمكن أن يكون غزيراً، ويمتلك تكاليف هامشية منخفضة، وأهمية متزايدة في كل صناعات تقريباً.

حتى مع زيادة تركز رأس المال في الإنتاج، فليس بالضرورة أن تستمر الأرباح التي سيجنيها أصحاب رأس المال في النمو بالنسبة للعمالة، حيث ستعتمد الأسهم على التفاصيل الدقيقة لنظم الإنتاج والتوزيع والإدارة.

الأهم من ذلك كله، هو أن المردود سيعتمد على أندر مدخلات الإنتاج، فإذا أوجدت التقنيات الرقمية بدائل رخيصة للمجموعات المتنامية من فرص العمل، فلن يكون ذلك الوقت المناسب لتكون عاملاً، ولكن إذا وجدت التكنولوجيات الرقمية أيضاً بديلاً لرأس المال، فلا يجب على أصحاب رؤوس الأموال أن يتوقعوا كسب عائدات ضخمة، أيضاً.

المورد الأكثر ندرة

ما سيكون المورد الأكثر ندرة، وبالتالي الأكثر قيمة، هو ما أطلق عليه إريك برينجولفسون وأندرو مكافي اسم "العصر الثاني للآلة"، وهو عصر تقوده التقنيات الرقمية وخصائصها الاقتصادية المرتبطة بها، ولن يكون للعمالة العادية أو لرؤوس الأموال التقليدية دور هنا، إنما سيحوز المشهد الأشخاص الذين يمكن أن يأتوا بالأفكار والابتكارات الجديدة.

بطبيعة الحال، كان هؤلاء الأشخاص دائماً ذوي قيمة اقتصادية كبيرة، وكثيراً ما استفادوا بشكل رائع من ابتكاراتهم نتيجة لذلك، ولكن كان عليهم مشاركة عائدات أفكارهم مع العمالة ورأس المال التي كانت ضرورية لهم لتمكينهم من دخول السوق، واليوم سيزيد تحويل التقنيات الرقمية لكل من العمالة العادية ورأس المال التقليدي إلى سلع من حصة العائدات التي سيحصل عليها المبدعون والمبتكرون ورجال الأعمال من الأفكار، وبذلك سيكون الأشخاص من ذوي الأفكار هم المورد الأندر، وليس العمال أو المستثمرين.

إن أبسط النماذج التي استخدمها الاقتصاديون لشرح تأثير التقنيات، يقدم التكنولوجيا على أنها مضاعف بسيط لكل شيء آخر، حيث أنها تزيد الإنتاجية الإجمالية بالتساوي للجميع، ويستخدم هذا النموذج في معظم الصفوف التمهيدية لدراسة الاقتصاد ويقدم أساساً بديهياً مشتركاً وملموساً يشير إلى أن موجة مرتفعة من التقدم التكنولوجي سوف ترفع جميع القوارب بشكل متساوي، لتجعل جميع العاملين أكثر إنتاجية وبالتالي أكثر قيمة.

ولكن من جهة أخرى، فإن النموذج الأكثر تعقيداً وواقعية، يطرح احتمالية أن لا تؤثر التكنولوجيا على جميع المدخلات بشكل متساوٍ، وأن يتم تفضيل بعضها على سواها بدلاً من ذلك، فالتغير التقني القائم على المهارات، على سبيل المثال، يلعب لصالح زيادة العمال الأكثر مهارة بالنسبة الذين يمتلكون مهارات أقل، والتغير التقني القائم على رأس المال يفضل رأس المال على العمالة، وعلى الرغم من أن كل من هذان النوعان من التغيرات كانا مهمين في الماضي، لكن هناك نوع ثالث من التغير التقني - وهو ما نسميه التغير التقني المبني على المشاهير - يغير وضع الاقتصاد العالمي بشكل جذري وعلى نحو متزايد.

اليوم، أصبح من الممكن أن تحول العديد من السلع والخدمات والعمليات الهامة إلى أوامر آلية، وبمجرد أن يتم أتمتتها، فإنها يمكن أن تصبح رقمية، وبمجرد أن تصبح رقمية، يصبح بالإمكان نسخها، ويمكن إجراء النسخ الرقمية بتكلفة تكاد تكون معدومة كما يمكن نقلها في أي مكان في العالم بشكل فوري تقريباً، وتكون كل نسخة طبق الأصل من النسخة الأصلية، والجمع بين هذه الخصائص الثلاث – التكلفة المنخفضة للغاية والانتشار السريع، والدقة المثالية - يؤدي إلى نشر اقتصاديات غريبة ورائعة، حيث يمكنها تحويل الندرة إلى وفرة، وذلك ليس فقط بالنسبة للسلع الاستهلاكية، مثل أشرطة الفيديو والموسيقى، ولكن أيضاً للمدخلات الاقتصادية، مثل أنواع معينة من العمالة ورأس المال.

تتبع العائدات في هذه الأسواق عادة نمطا واضحاً، وهو قانون القوة، أو منحنى باريتو، الذي يجني فيه عدد قليل من الأطراف حصة غير متكافئة من الأرباح، كما وتؤدي التأثيرات الشبكية، حيث يصبح المنتج أكثر قيمة بارتفاع عدد مستخدميه، إلى توليد هذه الأنواع من الأسواق أيضاً، ويمكن أخذ الإنستاغرام، وهي منصة لتبادل الصور، كمثال على الاقتصاديات الرقمية، والاقتصاد الشبكي، فالأشخاص الـ14 الذي أنشؤوا الشركة لم يحتاجوا إلى الكثير من المساعدين البشريين غير المهرة للقيام بذلك، كما أنهم لم يحتاجوا أيضاً إلى الكثير من رأس المال المادي، فقد قاموا ببناء منتج رقمي يستفيد من التأثيرات الشبكية، وعندما انتشر بسرعة، كانوا قادرين على بيعه بعد عام ونصف العام بما يقرب من ثلاثة أرباع مليار دولار، وللمفارقة، حدث ذلك بعد أشهر من إفلاس عملاق التصوير "كوداك"، الذي وظف حوالي 145,000 شخص واحتفظ بمليارات الدولارات في أصول رأس ماله خلال أفضل فتراته.

يعتبر الإنستاغرام مثالا صارخاً لقاعدة أكثر عمومية، ففي أكثر الأحيان، عندما تؤدي التحسينات التكنولوجيا الرقمية إلى جعلها أكثر جاذبية لرقمنة المنتج أو العملية، يشهد النجوم زيادة في دخلهم، حيث تصبح المنافسة صعبة على أصحاب المركز الثاني والواصلين متأخراً، كما شهدت الشخصيات الأفضل أداءً في مجالات الموسيقى والرياضة ومجالات أخرى نمواً في انتشارهم ومعدلات دخلهم منذ فترة الثمانينات، حيث انتهجوا نفس الاتجاهات بشكل مباشر أو غير مباشر.

ولكن ليست برمجيات وسائل الإعلام هي من يتحول فقط، فقد أصبحت الرقمنة والشبكات أكثر انتشاراً في جميع الصناعات والأعمال في مختلف قطاعات الاقتصاد، بداية بخدمات التجزئة والخدمات المالية لعمليات التصنيع والتسويق، وهذا يعني أن اقتصادات المشاهير بدأت تؤثر على المزيد من السلع والخدمات والأشخاص من أي وقت مضى.

حتى كبار المسؤولين التنفيذيين بدؤوا بكسب أرباح توازي نجوم الروك، ففي عام 1990، بلغ أجر الرؤوساء التنفيذيين في الولايات المتحدة، في المتوسط، 70 ضعف نسبة رواتب العمال الآخرين، وفي عام 2005، وصل إلى 300 ضعف، وبشكل عام، كانت مرتبات المسؤولين التنفيذيين مستمرة في انتهاج نفس النهج على مستوى العالم، وإن اختلفت من بلد إلى آخر، وقد أثر ذلك على العديد من القوى الأخرى، بما في ذلك التغييرات الضريبية والسياسية وتطور المعايير الثقافية والتنظيمية، ولكن كما أظهر بحث أجراه كل من برينجولفسين وهييكيونج كيم، فإن جزء من هذا النمو يرتبط بزيادة استخدام تكنولوجيا المعلومات، فالتكنولوجيا توسع الانتشار المحتمل والمدى والقدرة على التقييم لدى صانع القرار، وهذا يزيد من قيمة صانع القرار عن طريق توضيح العواقب المحتملة لخياراته، وكذلك، فإن الإدارة المباشرة عبر التكنولوجيات الرقمية تجعل المدير الجيد أكثر قيمة مما كان عليه في أوقات سابقة، عندما كان المديرون التنفيذيون مضطرون لمشاركة سلطتهم مع سلسلة طويلة من المرؤوسين، وكان يمكنهم أن يؤثروا على نطاق صغير من الممارسات فقط، ولكن اليوم، فكلما كانت القيمة السوقية للشركة مرتفعة، زاد سعيها لمحاولة الحصول على أفضل المديرين التنفيذيين لقيادتها.

عندما يتم توزيع الدخل وفقاً لقانون القوة، سيكون دخل معظم الأشخاص أقل من المتوسط، ومع تعرض سندات الاقتصادات الوطنية للتأثيرات المشابهة، فإن هذا النمط سيستنفذ نفسه على المستوي القومي، ومن المؤكد بأن الولايات المتحدة اليوم تمتلك واحداً من أعلى مستويات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد الواحد على مستوى العالم، وذلك حتى مع ركود دخلها المتوسط بشكل أساسي لمدة عقدين من الزمن.

التحضير للثورة الدائمة

إن القوى الفاعلة في العصر الثاني للآلة قوية وتفاعلية ومعقدة، ومن المستحيل أن ننظر إلى المستقبل ونتنبأ بدقة بما سيكون أثرها في نهاية المطاف، ولكن إذا ما تمكن الأفراد والشركات والحكومات من فهم ما يجري، سيكون بمقدورهم على الأقل محاولة التكيف والتأقلم معها.

على سبيل المثال، ستسعى الولايات المتحدة لاستعادة بعض الشركات مع تغير الجملة الثانية من خطة أبل المكونة من ثمانية كلمات لأنه سيتم تنفيذ عمليات التكنولوجيا والتصنيع مرة أخرى داخل حدود الولايات المتحدة، ولكن الجملة الأولى من الخطة سوف تصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، وهذا ما سيستوجب الحذر وليس التراخي، فلسوء الحظ، فقد تتعثر الديناميكية والإبداعية اللذان جعلا من الولايات المتحدة الدولة الأكثر ابتكاراً في العالم.

بفضل الثورة الرقمية التي أصبحت الآن مندفعة أكثر من أي وقت مضى، فقد أصبح التصميم والابتكار جزءاً من القطاع القابل للتداول من الاقتصاد العالمي، وسوف يواجه ذات النوع من المنافسة التي حولت بالفعل عملية التصنيع، حيث تعتمد الريادة في التصميم على قوة العمل المثقفة وثقافة العمل الحر، ولكن التقدم الأميركي المعتاد في هذه النواحي آخذ في الانخفاض، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت الأولى في العالم فيما مضى بعدد خريجيها الحاصلين على درجة زمالة على الأقل في سوق العمل، إلّا أن مرتبتها قد تراجعت الآن إلى الـ12، وعلى الرغم من اللغط الذي يدور حول ريادة الأعمال في أماكن مثل وادي السليكون، فإن البيانات تشير إلى أنه منذ عام 1996، تراجع عدد الشركات الأمريكية الناشئة التي توظف أكثر من شخص واحد بنسبة أكثر من 20%.

إذا أصبحت هذه الاتجاهات عالمية، فإن تأثيراتها المحلية ستتشكل، في جزء منها، جراء السياسات الاجتماعية والاستثمارات التي ستختار الدول القيام بها، سواء في قطاع التعليم على وجه التحديد أو في تشجيع الابتكار والدينامية الاقتصادية بشكل عام، فلأكثر من قرن، كان النظام التعليمي الأمريكي موضع حسد من العالم، وذلك مع نظامها التعليمي "K-12" العالمي وجامعاتها العالمية التي دفعت النمو الاقتصادي المستدام، ولكن في العقود الأخيرة، أصبح التعليم الابتدائي والثانوي متفاوتاً على نحو متزايد، حيث أصبحت جودة المدارس تعتمد بشكل أساسي على مستويات دخل الحي وغالباً التركيز المستمر على التعلم بالتلقين.

لحسن الحظ، فإن نفس الثورة الرقمية التي تعمل على تحويل أسواق المنتجات والعمالة يمكن أن تساعد أيضاً في تحويل التعليم، فالتعلم عبر الإنترنت يمكن أن يوفر للطلاب إمكانية الوصول إلى أفضل المعلمين والمحتوى وطرق التقديم بغض النظر عن موقعهم، كما ويمكن للمناهج الجديدة التي تعتمد على البيانات أن تسهل من عملية اكتشاف نقاط القوة والضعف لدى الطلاب، وهذا يجب أن يساهم في خلق فرص لبرامج تعلم شخصية، وذلك باستخدام بعض تقنيات ردود الفعل التي أدت بالفعل لتحول الاكتشاف العلمي، والتجزئة، والتصنيع.

ستؤدي العولمة والتغير التكنولوجي إلى زيادة الثروة والكفاءة الاقتصادية لدى الدول والعالم بأسره، لكنها لن تعمل لمصلحة الجميع، على الأقل في المدى القصير أو المتوسط، فالعمال العاديين، على وجه الخصوص، سوف يستمرون في تحمل العبء الأكبر من التغييرات، وسيستفيدون منها كمستهلكين ولكن ليس بالضرورة كمنتجين، وهذا يعني أنه من دون مزيد من التدخل، فمن المرجح أن يستمر التفاوت الاقتصادي في الزيادة، مما سيشكل مجموعة متنوعة من مشاكل عدم المساواة الاقتصادية، فمعدلات الدخل غير المتكافئة يمكن أن تؤدي إلى عدم تكافؤ في الفرص، وحرمان الدول من الحصول على المواهب وتقويض العقد الاجتماعي، أما بالنسبة للسلطة السياسية، فإنها غالباً ما تتبع القوة الاقتصادية، وفي هذه الحالة فإن هذا سيؤدي إلى تقويض الديمقراطية.

يمكن معالجة هذه التحديات بل ويجب معالجتها، وذلك من خلال قيام القطاع العام بتوفير الخدمات الأساسية ذات الجودة العالية، بما في ذلك التعليم، والرعاية الصحية، وتأمين المعاش التقاعدي، فهذه الخدمات ستكون أساسية لخلق المساواة الحقيقية في الفرص في بيئة اقتصادية سريعة التغير وحراك متزايد بين الأجيال في الدخل، والثروة، والتوقعات المستقبلية.

أما بالنسبة لتحفيز النمو الاقتصادي بشكل عام، فهناك شبه إجماع بين الاقتصاديين الجادين حول ضرورة تطبيق الكثير من السياسات، والاستراتيجية الأساسية بسيطة فكرياً، وإن كانت صعبة من الناحية السياسية، وهي تقول بأنه يجب زيادة استثمارات القطاع العام على المدى القصير والمتوسط مع جعل هذه الاستثمارات أكثر كفاءة وتطبيق خطة لضبط الأوضاع المالية العامة على المدى الطويل، ومن المعروف أن الاستثمارات العامة تحقق عائدات مرتفعة في مجال البحوث الأساسية في مجالات الصحة والعلوم والتكنولوجيا، وبشكل أعم في مجال التعليم، والإنفاق على البنية التحتية كالطرق والمطارات وأنظمة المياه والصرف الصحي والطاقة وشبكات الاتصالات، وزيادة الإنفاق الحكومي في هذه المجالات ستعزز من النمو الاقتصادي الآن، وستخلق ثروة حقيقية للأجيال اللاحقة فيما بعد.

إذا ما استمرت الثورة الرقمية على قوتها في المستقبل كما كانت في السنوات الماضية، فقد يحتاج هيكل الاقتصاد الحديث ودور العمل نفسه لإعادة النظر، وكمجتمع، قد يعمل أحفادنا عدداً أقل من الساعات ويعيشون حياة أفضل، ولكن يمكن أن يتوزع كلاً من العمل والعائدات بشكل غير متساوي، وهذا سيؤدي إلى حدوث عدة عواقب غير سارة، حيث سيتطلب خلق نمو مستمر وعادل وشامل أكثر من مجرد العمل على النحو المعتاد، لذلك يجب أن نبدأ بتكوين الفهم الملائم لمدى وسرعة تطور الأحداث.

المصدر: فورن فيرس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *