أهمية التعلم المستمر مدى الحياة في اقتصاديات المستقبل
تبعاً لـ(أندرو بالمر) فإن إحداث تغيير تقني يتطلب وجود روابط أقوى وأكثر استمرارية بين التعليم والعمل، وقد بدأت الخطوط الباهتة لمثل هذا النظام بالظهور بالفعل في الآونة الأخيرة.
للوهلة الأولى، يبدو مكتب لندن للجمعية العامة مثل أي شركة تقنية ناشئة أخرى، ولكن هناك فرق واحد كبير، ففي حين أن معظم الشركات تستخدم التقنية لبيع منتجاتها عبر الإنترنت، تستخدم الجمعية العامة العالم المادي لتعليم التقني، فمكتبها هو أيضا عبارة عن حرم جامعي، وغرفها تمتلئ بالطلاب الذين يتعلمون ويمارسون مختلف أساليب البرمجة، وكثير منهم قد ترك وظيفته للمجيء إلى هنا، وقد أنفق المشاركون، الذين يعملون هناك بدوام كامل، ما بين 8-10 آلاف يورو (9,900- 12,400 دولار ) لتعلم لغة التعامل للاقتصاد الرقمي من خلال برنامج يستمر ما بين 10 إلى 12 أسبوعاً.
تضم الجمعية العامة، والتي تمتلك 20 فرعاً تنتشر في العديد من المدن من سياتل إلى سيدني، هيئة خريجين تتألف من حوالي 35,000 خريجاً، وعادة ما يُتوقع من معظم الذين يلتحقون بالدورات ذات الدوام الكامل أن يلتحقوا بمهن جديدة، حيث يستند منهج الشركة على محادثات يتم إجراؤها مع أرباب العمل حول المهارات التي يعانون من نقص حاد فيها، كما يتم تنظيم مناسبات "للقاء والتوظيف" حيث يمكن للشركات رؤية مشاريع البرمجة التي قام بها الطلاب، وهناك مستشارون مهنيون يقومون بمساعدة الطلاب بتقنيات العرض والمقابلة، وعادة ما تقيس الجمعية العامة نجاحها بعدد خريجيها الذين يحصلون على وظائف دائمة بدوام كامل في المجالات التي يرغبون بها، فعلى سبيل المثال، استخدم ثلاثة أرباع خريجي دفعة 2014-2015 الخدمات المهنية الاستشارية للشركة، وكانت النتيجة حصول 99% منهم على وظيفة في غضون 180 يوماً من بداية بحثهم عن الوظائف.
جاء إلهام مؤسس الشركة (جيك شوارتز) للبدء في هذا المشروع من خلال تجربتين شخصيتين مرّ بهما، وهما فترة الضياع التي تلت إدراكه بأن شهادته التي حصل عليها من جامعة ييل لم تمنحه أية مهارات عملية، وماجستير إدارة الأعمال الذي امتد على فترة عامين وجعله يشعر بأنه كان ذو تكلفة باهظة من حيث الوقت و المال، حيث أشار: "كنت أرغب في تغيير معادلة عائدات الاستثمار في التعليم من خلال خفض التكاليف وتوفير المهارات التي يحتاج إليها أرباب العمل".
تميل العلاقة بين التعليم والكسب في البلدان الغنية لتتبع قاعدة بسيطة، وهي الحصول على أكبر قدر من التعليم في المراحل المبكرة من الحياة، لتجني الأرباح نتيجة ذلك لبقية حياتك المهنية، حيث تشير الأبحاث إلى أن قضاء سنة إضافية بالتعليم يرتبط مع ارتفاع يصل إلى 8 وحتى 13% في الدخل في الساعة، وقد ظهرت آثار ترك المدرسة في سنوات مبكرة من الحياة بشكل أكثر وضوحاً في الفترة التي تلت الأزمة المالية في أمريكا، حيث تبين بأن معدل البطالة كان ينخفض بشكل مطرد كلما كان الشخص أعلى مرتبة ضمن سلم التعليمي الأكاديمي.
يظن الكثيرون بأن التغير التقني لا يعمل إلا على زيادة فرص الأشخاص الحاصلين على تعلم أكاديمي أكثر من غيرهم فقط، حيث أن الوظائف التي تتكون من مهام روتينية يسهل أتمتتها بدأت بالانخفاض، وبشكل طبيعي، فإن الجانب الثاني لهذه المعادلة هو أن عدد الوظائف التي تتطلب المزيد من المهارات المعرفية بدأت بالازدياد، وعلى اعتبار أن سوق العمل يتفرع، فمن الطبيعي أن يستولي ذوو الشهادات الجامعية على الوظائف ذات الأجور الأعلى.
ولكن يبدو بأن الواقع يمكن أن يكون أكثر تعقيداً، فقد أصبحت عائدات التعليم، حتى لذوي المهارات المعالية، أقل وضوحاً، فوفقاً لمجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك، فقد ارتفع متوسط الأجور التي يحصل عليها العمال الأميركيون الحاصلون على درجة البكالوريوس بين عامي 1982 و 2001 بنسبة 31%، في حين أن أجور خريجي المدارس الثانوية لم تتغير، ولكن في السنوات الـ12 التي تلت ذلك، انخفضت أجور خريجي الجامعات أكثر من أقرانهم الأقل تعليماً، وفي الوقت نفسه، فإن تكاليف الرسوم الدراسة في الجامعات ارتفعت.
تساؤلات حول الدرجات العلمية
قرار الالتحاق بالكليات لا يزال منطقياً بالنسبة لمعظم الأشخاص، ولكن فكرة وجود علاقة قابلة للقياس بين التعليم والأجور بدأت تتضعضع، فقد أظهرت دراسة حديثة أجراها مركز بيو للأبحاث أن 16% من الأمريكيين فقط يعتقدون بأن الحصول على شهادة جامعية بعد قضاء أربع سنوات في الدراسة تعدّ الطلاب بشكل جيد للحصول على وظائف ذات رواتب عالية في الاقتصاد الحديث، وقد يكون هذا في جزء منه ناتجاً عن تأثير الأزمة المالية وتداعياتها الاقتصادية، ولكن قد يكون الجزء الآخر منه ناتجاً ببساطة عن حالة العرض في السوق، فمع ازدياد عدد الأشخاص الحاصلين على شهادات جامعية، ينخفض تأثير قيمة الشهادة الجامعية الاستثنائي على الأجور، ولكن يبدو بأن التقنية تلعب دوراً أيضاً في تعقيد الصورة.
نُشر بحث في عام 2013 من قِبل ثلاثة خبراء اقتصاد كنديين، وهم (بول بيدري)، (ديفيد غرين) و(بنجامين ساند)، يتساءل ضمنه الباحثون حول الافتراضات المتفائلة بشأن الطلب على العمل غير الروتيني. فخلال العقدين الذين سبقا عام 2000، ارتفع الطلب على المهارات المعرفية مع بدء ظهور البنية التحتية الأساسية لعصر تقنية المعلومات (أجهزة الكمبيوتر والخوادم ومحطات وكابلات الألياف البصرية)، ولكن مع إنتهاء بناء هذه التقنيات بشكل نهائي تقريباً، تضاءل هذا الطلب، وعلى اعتبار أن نسبة الوظائف التي تتطلب مهارات عالية في أمريكا منذ عام 2000 قد انخفضت، فإن العمال الذين يمتلكون تعليماً جامعياً عالياً بدؤوا بالاستيلاء على الوظائف التي تتطلب معرفية علمية أقل، مستبدلين بذلك العمال الأقل تعليماً.
هذا التحليل يدعم الموقف الذي مفاده أن التقنية تعيث بالفعل فساداً في مجال العمل، وأن العمال المهرة وغير المهرة قد أصبحوا في ورطة على حد سواء، فعلى الرغم من أن الحاصلين على تعليم أفضل لا يزالون يمتلكون فرصاً أكبر في العثور على عمل، ولكن هناك أيضاً احتمال كبير بأن لا يكون ذلك العمل ممتعاً بالنسبة لهم، في حين يواجه أولئك الذين لم يصلوا إلى المرحلة الجامعية احتمالية الطرد من القوى العاملة تماماً، وهذه هي حجة الأشخاص المتشائمين من التكنولوجيا، والتي تجسدت في توقعات (كارل بينيديكت فراي) و(مايكل أوزبورن)، من جامعة أكسفورد، اللذان قاما في عام 2013 بإجراء حساباتهما الشهيرة واستنتجا أن 47% من فرص العمل الحالية في أمريكا ستكون عرضة للأتمتة.
من جهة ثانية، فإن هناك إمكانية أخرى قد تكون أقل دراماتيكية، فقد قام (جيمس بيسن)، وهو خبير اقتصادي في جامعة بوسطن، بالعمل على استكشاف آثار الأتمتة على مهن محددة، ووجد بأن التوظيف في المهن التي تستخدم أجهزة الكمبيوتر قد ازداد منذ عام 1980 بشكل أسرع مقارنة بالمهن التي لا تستخدمها، وهذا لأن الأتمتة تعمل على التأثير على المهام ضمن المهنة بدلاً من محو الوظائف ضمنها بشكل تام، وبهذا، فإن الأتمتة الجزئية يمكن في الواقع أن تزيد الطلب من خلال خفض التكاليف، فعلى الرغم من إدخال ماسحات الباركود الضوئية في محلات السوبر الماركت وأجهزة الصراف الآلي في البنوك، على سبيل المثال، فقد ازداد عدد المحاسبين في المحلات والصرافين في البنوك.
ولكن على الرغم من أن التقنية قد لا تدمر الوظائف بالمجمل، فإنها تفرض التغيير على كثير من الأشخاص، فوفقاً لبحث أجراه (باسكوال ريستريبو) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، فقد انخفضت نسبة الأمريكيين الذين يعملون في الوظائف المكتبية الروتينية من 25.5% إلى 21% ما بين عامي 1996 و 2015، وتم القضاء على ما يقارب من 7 ملايين وظيفة، وقد جعلت الأزمة المالية الأمور أسوأ، فخلال الفترة التي امتدت ما بين عامي 2007 و 2015 انخفضت فرص العمل الروتينية للعمال غير المهرة بنسبة 55% مقارنة بالوظائف الأخرى.
أصبح من الضروري اكتساب مهارات جديدة في العديد من المهن، وخاصة عندما تصبح المهارات المكتسبة أمراً عفا عليه الزمن، فقد وجدت شركة (Burning Glass Technologies)، وهي شركة ناشئة يقع مقرها في بوسطن من خلال تحليلها لأسواق العمل عن طريق جمع البيانات من إعلانات الوظائف المطروحة على شبكة الإنترنت، بأن الطلب الأكبر أصبح على مجموعات جديدة من المهارات –وهي ما يدعوها رئيس الشركة، (مات سيجيلمان) "وظائف مختلطة"- فمهارات البرمجة، على سبيل المثال، أصبحت الآن مطلوبة بشكل كبير في قطاع التقنية، حيث أن 49% من طلبات الوظائف التي تحتل المرتبة الأعلى في الأجور في أمريكا هي للوظائف التي تتطلب الكثير من مهارات البرمجة (انظر الرسم البياني)، كما أن تكوين الوظائف الجديدة بدأ بالتغير بسرعة أيضاً، فعلى مدى السنوات الخمس الماضية، نما الطلب على محللي البيانات بنسبة 372% ضمن هذا القطاع، كما أن الطلب على مهارات تصوير البيانات (التصوير البياني) وصل إلى 2574%.
لم تعد الشهادة جامعية في بداية الحياة الوظيفية تلبي الحاجة المستمرة في امتلاك المهارات الجديدة، وخصوصاً مع توسع المهن وتطورها، وعلى الرغم من أن التدريب المهني يعتبر أمراً جيداً في إعطاء الأشخاص مهارات وظيفية محددة، ولكن من الواجب أيضاً تحديث هذه المهارات بشكل متكرر ومستمر، فبحسب (أندرياس شلايشر)، وهو رئيس إدارة التعليم في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فعلى الرغم من أن ألمانيا غالباً ما تشيد بتلامذتها الصناعيين، غير أن اقتصادها قد فشل في التكيف مع الاقتصاد المعرفي، فرغم أن التدريب المهني يلعب دوراً مهماً، إلّا أن تدريب الشخص على شيء واحد في وقت مبكر من حياته ليستمر بفعله طوال حياته ليس بالأمر الفعال.
على الرغم من أن الخبرات المحددة التي تفيد العامل في حياته يتم اكتسابها من خلال الوظيفة ذاتها، ولكن يبدو بأن أصحاب الأعمال قد أصبحوا أقل رغبة في الاستثمار في تدريب العاملين لديهم، حيث وجد مجلس أميركا الاستشاري الاقتصادي في التقرير الاقتصادي لعام 2015 الذي تم عرضه على الرئيس، أن نسبة العمال في البلاد الذين يحصلون على تدريب مدفوع أو على تدريبات تدفع حسابها الشركات الموظفة لهم قد انخفض بشكل مطرد بين عامي 1996 و 2008، كما أن متوسط نسبة العمال الذين تلقوا التدريب في بريطانيا انخفض تقريباً إلى النصف بين عامي 1997 و 2009، ليصبح حوالي 0,69 ساعة في الأسبوع فقط.
قد يكون السبب وراء هذا هو أن أرباب العمل أنفسهم غير متأكدين من نوع الخبرة التي يحتاجون إليها، ولكن يمكن أن يكون السبب أيضاً هو أن ميزانيات التدريب عادة ما تكون معرضة بشكل خاص للتخفيض عند يكون هناك ضغط على الشركة، كما أن التغيرات في أنماط سوق العمل قد تلعب دورا أيضاً، فالشركات تمتلك الآن مجموعة واسعة من الخيارات للقيام بأعمالها، من الأتمتة إلى الاستعانة بمصادر خارجية واستخدام العمال ذو المهن الحرة والتمويل من العامة، وبحسب (جوناس بريسينج) وهو رئيس شركة استشارات التوظيف (Manpower)، فإن المنظمات تحولت من خلق المواهب لاستهلاك العمل.
بالنظر إلى جميع هذه الأمور سوياً، سنجد أن الأمور قد أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة للعمال من جميع القطاعات؛ فعلى الرغم من أن الشهادة جامعية لا تزال شرطاً أساسياً للحصول على الكثير من الوظائف، ولكن أرباب العمل في كثير من الأحيان لا يثقون بأنها ستكون كافية بذاتها لتوظيف العمال دون وجود أي خبرة أخرى، ففي العديد من المهن يواجه العمال الذين يعملون في شركات تدفع لهم رواتب شهرية، احتمالية أن تصبح مهاراتهم الحالية بالية وغير مجدية، ولكن غالباً ما يكون من غير الواضح كيف يمكن لهؤلاء العمال اكتساب مهارات جديدة، وبحسب (سيجيامان) فقد أصبح من الطبيعي الآن أن نطلب من أخصائيي التسويق أن يكونوا قادرين على تطوير الخوارزميات، ولكن الخط المهني الثابت في مجال التسويق لا يقدم فرصة لاكتساب تلك المهارات، وهذا ما جعل عدداً متزايداً من الأشخاص ينتقلون للعمل لحسابهم الخاص، ففي أمريكا ارتفعت حصة العمال المؤقتين والمتعاقدين والمستقلين في قوة العمل من 10.1% في عام 2005 إلى 15.8% في عام 2015.
إعادة التأهيل
قد تبدو الإجابة لهذه المشكلة واضحة، فحتى تبقى قادراً على المنافسة في سوق العمل، ولتقديم أفضل فرصة للنجاح بالنسبة للعمال من ذوي المهارات المنخفضة والعالية على حد سواء، فإنه لا بد على النظم الاقتصادية توفير التدريب والتعليم الذي يركز على المهنة على مدى حياة الشخص العملية، وهذا التقرير الخاص يمكن أن يخطط بعض الجهود المبذولة في سبيل ربط التعليم والعمل بطرق جديدة، وذلك من خلال التمهيد للدخول إلى سوق العمل وتمكين الأشخاص من تعلم مهارات جديدة طوال حياتهم المهنية، وعلى الرغم من أن العديد من هذه المبادرات لا تزال في مهدها، لكنها تقدم لمحة عن المستقبل، ودليلاً على المشاكل التي تثيرها عملية تجديد المهارات مدى الحياة.
هناك الكثير من الأمور التي تحدث بالفعل على أرض الواقع، فالجمعية العامة، على سبيل المثال، هي مجرد واحدة من العديد من مقدمي خدمات التدريب على الترميز، فقد أصبح هناك العديد من الشركات التي تقدم دورات مفتوحة على الإنترنت (MOOC)، فقد قام موقع (LinkedIn)، وهو موقع شبكي مهني، على سبيل المثال، بشراء موقع التدريبات عبر الإنترنت، ليندا دوت كوم، في عام 2015 وهو يعرض الآن دورات مختلفة من خلال خدمة تسمى (LinkedIn Learning)، كما وتمتلك شركة (Pluralsight) مكتبة من مقاطع فيديو للتدريب التي يتم توفيرها حسب الطلب، ويحتوي قسم سحابة الحوسبة لأمازون أيضاً على فرع تعليمي.
من جهة ثانية، بدأت الجامعات تحتضن مبدأ التعليم والتعلم القياسي عبر الإنترنت بشكل أكثر كثافة، فقد أصبحت بلدان، مثل سنغافورة، تعمل بشكل كبير على توفير اعتمادات تعلم لمواطنيها يمكنهم أن يستفيدوا منها طوال فترة حياتهم العملية، كما يبدو أيضاً بأن الأفراد قد أصبحوا أكثر قبولاً لفكرة أنهم بحاجة لتطوير أنفسهم بشكل مستمر، فوفقاً لاستطلاع تم إجراؤه من قبل شركة (بيو)، فإن 54% من مجموع الأمريكيين العاملين يعتقدون أنه سيكون من الضروري عليهم تطوير مهارات جديدة طوال فترة حياتهم العملية، كما أن هذه النسبة تصل إلى 61% بين الأشخاص البالغين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً، كما وقد وجدت دراسة أخرى، أُجريت من قبل القوى العاملة في عام 2016، بأن 93% من جيل الألفية كان على استعداد لإنفاق أمواله للحصول على المزيد من التدريب، وفي الوقت نفسه، بدأ أرباب العمل يضعون تركيزاً متزايداً على التعلم كمهارة في حد ذاتها.
المصدر: الايكونوميست
اترك تعليقاً