كيف نفكك التعلم ونعيد بناء التعليم بعد كوفيد-19
أدى انتشار كوفيد-19 على مستوى العالم إلى تغيير في التعليم العالي، ولكنه في النهاية سيكون تغييرًا إلى الأفضل.
فقد أثار إعادة فتح حرم الجامعات الكثير من الجدل على مستوى العالم. ففي حين ظهرت الكثير من الحالات الإيجابية في جامعات مثل نوتردام وجامعة نورث كارولينا وجامعة ولاية ميتشيغان وغيرها مما أدى إلى قرار الإغلاق.
في الوقت نفسه، فإن الحجج معارضة، مثل حجة كريستينا باكسون وهي رئيسة جامعة براون تؤكد على عدة مسائل سيواجهها الطلاب والجامعات إذا بقيت الجامعات مغلقة، تحديدًا على الصعوبات التي تأتي مع التعلم عن بعد للطلاب خصوصًا ممن لا تتوفر لديهم الإمكانات التقنية المتطورة لاستمرار التعلم عن بعد.
لكن ماذا سيعني هذا من الناحية التعليمية البحتة؟ فنظرًا لوجود البدائل الرقمية للتعليم والتي ترفع درجة الأمان والوقاية من الإصابة بالفيروس، فإن ذلك سيطرح المزيد من التساؤلات بشأن أهمية الحرم الجامعي وهل سيكون هناك مبرر "غير مالي" للاحتفاظ به؟
ومن ناحية أخرى فهل سيكون التعليم عن بُعد قادر على مواكبة متطلبات تخصصات مثل التمريض والكيمياء وغيرها من مجالات تتطلب توفير بيئات فيزيائية معينة وإجراء تجارب واقعية لاستمرار التعليم؟ بعبارة أخرى هل يمكننا القول أن التعليم الشخصي له أي مستقبل؟
نهاية الحرم الجامعي؟
يقول إيلين مهوف (Ilian Mihov) : بصفتي عميدًا لكلية إدارة أعمال عالمية وعضو في العديد من مجالس التعليم ، أعلم أن التعليم العالي قد اجتاز العديد من جولات الابتكار التقني في الماضي.
فمثلًا كان إدخال المطبعة في القرن الخامس عشر من أكبر هذه التحولات التي أثرت بشكل كبير في شكل التعليم وقتها، فقد أدى هذا الابتكار الذي انطلق على يد جوتنبرج أن تكون الجامعات أكثر قوة من أي وقت مضى قبلها. ثم دخلت الآلة الحاسبة ثم الكمبيوتر الشخصي وأخيرًا الإنترنت.
ومن المتوقع بشدة أن يتمكّن التعليم العالي من التكيف مع التعليم الافتراضي بل ويُصبح أكثر قوة وتأثيرًا به، بالضبط كما حدث مع التغيرات التقنية التي سبقته.
لذا فبدلًا من تعطيل الدراسة ومقاومة التغيرات الحديثة فإنه سيتم دعم المؤسسات العلمية بهذه التقنية المتطورة بما يتلاءم مع طبيعتها، ولكن هذا سيتطلب إعادة التفكير الجذري في الحرم الجامعي ومدى التغير الذي سيطرأ عليه بحيث يكون مختلفًا عما عرفته الأجيال السابقة.
ولكن قبل التطرق إلى مسألة الحرم الجامعي فعلينا أن نؤكد على نقطة مهمة للغاية، فبالعودة إلى الخلف قليلًا سنجد أن النموذج القديم للتعليم الجامعي نجح في التكيف والاستمرار لفترة طويلة نتيجة قدرته على التوازن بين طريقتين مهمتين في التعليم وهما الطريقة العمودية (أي من أعلى إلى أسفل)، والطريقة الأفقية (أي الاجتماعية).
والتعلم العمودي ببساطة هو ما يتم في قاعات المحاضرات أو ساعات العمل ويقوم فيه الطلاب بتدوين الملاحظات بشكل دقيق أو مناقشة الموضوعات مع أحد الخبراء والمتخصصين في المجال، فهذا التعلم الرأسي يتوفر في أي مكان يقوم فيه أي أستاذ أو معلم أو شخص ذو دراية بالسيطرة على معظم الحديث. وهذه الطريقة هي جزء رسمي في التعليم.
ولكن هناك التعليم الأفقي أو الاجتماعي وهو يكون بين الطلاب أنفسهم عندما يتناقشون في معضلة ما أو قضية، كما أن الأستاذ نفسه أو المُحاضر يمكن أن يساعد على تقنين هذا النوع من التعليم عن طريق المشاريع الجماعية والتي يستفيد فيها كل طالب من مهارات زميله. ولكن غالبًا ما يتم التعليم الأفقي بشكل عفوي وغير خاضع إلى الجداول اليومية العادية.
في حين أن التعليم العمودي يمكن التخطيط له مسبقًا وتنظيمه على نحو أكثر وضوحًا. لذا من الممكن إلى حد كبير وفي ظل الظروف الجديدة من ضرورة التعلم عبر الإنترنت أن يكون الاعتماد الأكبر على التعليم العمودي، حيث سيكون من الأفضل تجنب قاعات المحاضرات المزدحمة والتفاعل الاجتماعي القريب بين الطلاب وذلك على الأقل حتى اكتشاف اللقاح الذي ينتظره العالم كله.
إيجابيات وسلبيات التعليم الافتراضي
من البديهي أن التعليم الافتراضي سيكون له الكثير من العيوب، فمثلًا سنجد أن متابعة الطلاب ستكون أسهل بكثير إذا كانوا في الغرفة نفسها ووجهًا لوجه مع المُحاضر والذي سيتعرف على مدى تفاعل الطلاب أو شعورهم بالملل أو حتى الارتباك وعدم الفهم.
وهناك أيضًا حقيقة الاستنزاف السريع لطاقة الأساتذة خلال أيام أو أسابيع، وهذا نتيجة الصراع الدائم الذي عليهم أن يخوضوه في محاولة التكيف مع التحديات الجديدة المرتبطة بالتدريس عبر الإنترنت.
ومن ناحية أخرى فإن الكثير من الطلاب أعلنوا أن التعليم عبر الإنترنت يفتقر إلى الحميمية والتفاعل الموجود في الفصول الدراسية الواقعية. وقد أظهرت أبحاث تم إجراؤها قبل انتشار فيروس كوفيد 19 أن الطلاب يتعلمون في فصول الإنترنت بدرجة أقل من التفاعل الشخصي.
ومع ذلك فإنه يمكن بعد فترة من إجراء التعديلات أن يتم التغلب على مشكلات التعلم عبر الإنترنت بحيث تتحسن نتائج التجربة تدريجيًا. فعندما يتأقلم الأساتذة مع متطلبات هذه التقنية ويكونون أكثر تقبلًا لها ويتفهمون مدى الحرية المتاحة من خلالها للطلاب عن تلك الموجودة في الفصول التقليدية، فإن النتيجة الإجمالية ستكون أكثر إيجابية.
فمثلًا في قاعة المحاضرات التقليدية سنجد أنه من الصعب للغاية أن ينقسم الطلاب إلى مجموعات أصغر للقيام بنشاط تعليمي ما، ثم إعادة الانتظام في أماكنهم المعتادة بالسرعة المطلوبة والوقت المناسب.
ولكن المحاضرات عن بُعد عن طريق تطبيق زووم "ZOOM" مثلًا، تحل هذه المشكلة تمامًا من خلال السهولة التامّة في إنشاء الغرف المنفصلة، مما قد يمثل تعويضًا عن التفاعل الشخصي كما يزيد من المشاركة النشطة للطلاب في التعلم.
بمعنى آخر فإن التقنية الجديدة قادرة على إدماج التعلم الأفقي الاجتماعي في الأماكن نفسها التي يتم فيها التدريس بطريقة عمودية، ومع هذا فمن دون وجود حرم جامعي نابض بالحياة والذي يشكل منصة مادية للتفاعلات العفوية غير المخطط لها، فإن سمة "العفوية" في التعليم الأفقي ستختفي في الغالب.
وبسبب عدم القدرة على تنظيم عملية التعلم الأفقي أو وضع التزامات صريحة لها فإنها تتم بكفاءة وسهولة في المساحات المخصصة للتفاعلات الاجتماعية. وتؤكد الأبحاث أن اختفاء الحرم الجامعي سيؤدي إلى خسارة فادحة للطلاب.
وقد وجدت دراسة أُجريت عام ٢٠١٨ أن الطلاب الذين ألقوا درسًا مباشرة -دون الاستفادة من الملاحظات- اعتمادًا على ما تعلموه للتو في الدرس، احتفظوا بنفس القدر من المعلومات بعد أسبوع كزملائهم الذين اكتفوا بكتابة المعلومات فقط دون أن يلقوا أي محاضرات تفاعلية بشأنها.
وتوصلت الدراسة إلى أن هذا يعني أن الطلاب يتعلمون بشكل أفضل عندما يمكنهم التفاعل أكثر مع بعضهم البعض كمكمل للتعليم الرسمي، وأنه من دون توفير بيئة مادية مبنية على التعلم المتبادل فإن فرص قيِّمة للتعليم ستضيع إلى الأبد.
ومن المتوقع أن تتحقق نتائج أفضل عند تطبيق نموذج التعلم الموسع الذي يتم فيه الجمع بين الفصول الدراسية عبر الإنترنت وبعض المحاضرات التي تتم وجهًا لوجه والتفاعلات الاجتماعية في حرم الجامعة وذلك مقارنة بأسلوب التعليم القديم الحالي. وبالطريقة نفسها فإن دخول الإنترنت إلى مجال التعليم العالي سيجعل التعليم الجامعي أكثر قوة بكثير وستتحقق نتائج أفضل إذا تم إيجاد طريقة لتوفير المساحة المناسبة للتعلم الاجتماعي أيضًا.
إعادة بناء فكرة التعليم العالي
لا يمكن اعتبار الجدل الحالي الدائر بشأن التعليم الجامعي بمثابة اضطراب أو تخبط. ولكنه ببساطة بمثابة إعادة بناء للتعلم مع وجود عدد لا يصدق من الخيارات المتاحة لتقديم المحتوى. وهنا سيصبح توفير فرص التعلم الأفقي أكثر أهمية في هذا النظام المزدوج.
فعندما يتم اعتماد هذا النموذج المزدوج بين الإنترنت والمحاضرات التفاعلية فإن الحرم الجامعي المستقبلي سيتجه نحو تبني تعليم أقل نظامية أو اعتمادًا على الجداول، والذي عند التجول فيه سنجد عددًا أقل من الطلاب الذين يندفعون سريعًا إلى المحاضرة التالية، وفي المقابل سنجد مجموعات أكبر تنخرط في أحاديث اجتماعية بالساعات.
فسيصبح الحرم الجامعي الفعلي المستقبلي الجديد وفقًا لهذا النموذج بمثابة مركز تفاعليًا ديناميكيًا أكثر من كونه نقطة تعلم، كما سيكون مصدرًا للدعم سواء من الناحية التقنية أو غير ذلك للطلاب الذين أشارت إليهم دكتور باكسون من قبل.
بمرور الوقت، فإنه من المتوقع أن يُصبح الجو العام للحرم الجامعي شيئًا أشبه بمتجر آبل "Apple"، حيث سيجتمع فيه الطلاب لاختبار الأفكارو التقنيات، بالإضافة إلى شحن طاقتهم الاجتماعية قبل الانخراط من جديد في الدورات الدراسية المنزلية.
والأهم من ذلك أنه سيؤيد مفهوم التعليم العالي باعتباره وسيلة لكي يتعلم الطلاب من بعضهم البعض ومن الخبراء والأساتذة أيضًا، مما يجعلهم أكثر كفاءة وترابطًا وسرعة، فهذا من الوعود الأساسية التي يجب على المؤسسات التعليمية المستقبلية أن تحققه.
المصدر: INSEAD knowledge
اترك تعليقاً