شفرة الثقافة: أسرار المجموعات الناجحة للغاية

الوضع الليلي الوضع المضيء

ملخص الكتاب (دانييل كُوْيل- Daniel Coyle)
ولأهميته وما فيه من دروس فقد قمنا في مدونة المستقبل بترجمته.

إن الثقافة الجمعية تعتبر من أهم المنهجيات المتبعة لبناء الشخصيات وفرق العمل الناجحة على الإطلاق.  إذ يُلْحَظُ وجود مثل هذه الثقافة لدى الشركات التجارية الناجحة وفرق العمل الأكثر كفاءةً، ولدى الأُسَر والعوائل الأكثر استقراراً من الناحية العاطفية. حيث أن غياب هذه الثقافة يبدو جليًا على أي مجموعة أو أسرة أو فريق عمل يفتقر إلى التفاهم والانسجام. وعند دراسة مثل هذه المجموعات، عادة ما يتم التركيز على الأفراد الممارسين لهذا النوع من الثقافة من أجل الوصول إلى فهم أعمق لها. وعادة ما يكون محور التركيز مُنْصَبّا على الأمور البديهية من قبيل المهارات الفردية.

إلا أن الأهمية القصوى لا تكمن في المهارات الفردية. بل إن التفاعل و الأخذ والرد الحاصل ما بين أفراد المجموعة هو ما يُهمُّنا.   

ويقدم (دانييل كُوْيل) لنا في هذا الكتاب أهم ما توصل إليه من النتائج، مُسْتَشهدًا بأن الثقافة لا تُعَبِّر بالضرورة عن الشخصية الفردية، بل إنها تشير إلى تلك المكتسبات من الخبرات والمهارات التي نكتسبها جَرَّاء انتماءنا إلى فريقٍ أو مجموعةٍ ما.     

  • المهارة رقم ١- بناء جو من الثقة والأمان:  كيفية بناء روابط من الانتماء والهوية الثقافية من خلال مجموعة من الإشارات وعمليات التواصل.
  • المهارة رقم ٢- إظهار قابلية التأثر بالآخرين والتعلم من تجاربهم وخبراتهم:  كيف للعادات ذات المخاطر المتبادلة أن تؤدي إلى ترسيخ قيم التعاون على أساس الثقة.  
  • المهارة رقم ٣- وضع الأسس والمفاهيم للوصول إلى الأهداف والغايات المنشودة: كيف لتشارك القصص والخبرات السابقة أن يؤدي إلى رسم الأهداف والقيم المنشودة ما بين أفراد المجموعة الواحدة.   
المهارة رقم ١: بناء جو من الثقة والأمان

إن عملية بناء جو من الثقة والأمان هي الأساس القوي الذي تبنى عليه الثقافة الجمعية.  ما هي تلك المنهجية المُتَّبَعَة التي من خلالها يمكن بناء ووضع أسس ثقافة جمعية جوهرها الشعور المتبادل بالثقة والأمان؟

عند سؤالنا للأفراد المنتمين إلى المجموعات الناجحة عند وصفهم لطبيعة العلاقات ما بين أفراد المجموعة، فإن الكلمة أو العبارة التالية هي التي تتكرر دائما في إجابات كُلٍّ منهم: الأسرة أو كالأسرة الواحدة. حيث أن أساليب وطرق التواصل ما بين أفراد المجموعة التي تعمل كأسرة واحدة تكون في أغلب الأحيان غير شفهية أو من خلال إيماءات أو إشارات انتمائية تعبر عن الدعم والمساندة.   

وعلى اعتبار أن البشرية كانت ولاتزال تستخدم لغة الجسد والإشارة، فإن الإيماءات والإشارات الانتمائية تتميز بثلاث سمات جوهرية:

  • الحيوية:  من خلال الحركات والإيماءات الجسدية الحيوية التي نتبادلها فيما بيننا كأفراد مجموعة. 
  • إضفاء الطابع والشخصية الفردية:  إننا نميل إلى معاملة بعضنا البعض كأفراد متميزين ذوي شخصيات فريدة لا مثيل لها.  
  • التوجه المستقبلي ما بين أفراد المجموعة:  وهذا يتم من خلال الإيحاءات والإشارات بأن العلاقة ما بين أفراد المجموعة سوف تستمر.  

إن مثل تلك الإيحاءات والإشارات تكمل رسالة ما بين أفراد المجموعة مفادها يتلخص بعبارات مثل التالية:   "وأنت بصحبتنا سوف نشعرك بالأمان، لا تقلق." "هانحن هنا بجانبك، لا تخف."   

كيف لنا أن نبني ذلك الشعور بالانتماء.  

لقد لوحظ شيوع فهم مغلوط عن الثقافات المتميزة بالنجاح، ألا وهو بأنها تتمتع بكمٍ هائلٍ من السعادة وأجواء المرح. ولكنها في الواقع تسودها أجواء التفاعل الحيوي فيما بين أفرادها، الذين يكونون منشغلين بكيفية إيجاد الحلول للمشاكل التي تواجههم عوضًا عن انشغالهم بالبحث عن الوصول إلى السعادة وراحة البال. حيث أن المهمات مثل تلك المذكورة أعلاه تتضمن في كثيرٍ من الأوقات لحظاتٍ يكون فيها تبادل الآراء الصادقة وقول الحقيقة هم سَيِّد الموقف ما بين أفراد المجموعة، وخصوصًا عندما يكون الحديث السائد عن الوضع الحالي للمجموعة بالمقارنة مع عما يجب أن تكون قد أنجزته هذه المجموعة.   

وهذا ما توصل إليه الكثير من الباحثين في مجال التغذية الراجعة أو ما يعرف بقول الآراء على نحوٍ صريح، الذي من شأنه أن يؤدي إلى رفع جودة الأداء وكم الجهود المبذولة من طرف أفراد المجموعة، وهذا ما يحلو لهم تسميته بــ"التغذية الراجعة السحرية أو الفعالة."   

فمثلًا، إليك بالعبارة التالية: "لقد زودتك برأيي هذا، بكل صراحة ووضوح، لأني أرى فيك إمكانيات هائلة غير مُسْتَغَلَّة من طرفك، وأعتقد أنه بإمكانك تحقيق المزيد من النجاح والتَفَوُّق."

وفي هذه المقولة نلاحظ عدم وجود أي كلمات أو تعابير تحتوي على معلومة أو ملاحظة عن كيفية تحسين الأداء من طرف الفرد المعني بالكلام.  ومع ذلك، فهي مقولة ذات تأثير فعال لكونها تحتوي على ثلاث إيحاءات أو إشارات ذات وَقْع فَعَّال وإيجابي في نفس الفرد المعني بها، وهي:

  • أنت عنصر مهم وقَيِّم في مجموعتنا.
  •  هذه المجموعة متميزة على اعتبار أننا نطمح دائماً إلى المزيد من النجاح والتَقَدُّم.
  • وأرى أنه بمقدورك الوصول إلى أعلى المراتب وتحقيق الأهداف السامية لهذه المجموعة.     

كيفية ترسيخ قيم ومبادئ الانتماء

يستفيض (دانييل كُوْيل) بالحديث عن لقاءاته مع المدير التنفيذي لشركة للتَّسَوُّق الالكتروني، السيد( توني شيه - Tony Hsieh)، وعن قدرته على ترسيخ قيم الانتماء لدى موظفي شركته. حيث يصف أنه في إحدى الفعاليات، حضر (توني شيه) بكل حيوية ونشاط إلى الفعالية، وأصبح يتبادل أطراف الحديث معهم، معرفًا إياهم على (دانييل كُوْيل) وغيره من الحضور. إذ لاحظ (دانييل كُوْيل) بأن هذا الشخص القيادي كان على تواصل وِدِّي مع جميع الحاضرين وكان يعمل على بناء جسور التواصل فيما بينهم.      

ويرى (دانييل كُوْيل) بأن طريقة تفاعل (توني شيه) مع الآخرين ما هي إلا منهجية حسابية ذكية لبناء التقارب ما بين أفراد المجموعة أساسها التصادم البيني. ويُعَرَّف التصادم البيني على أنه مقابلات عفوية لاكتشاف المواهب والكفاءات ما بين الأفراد المتقابلين، وهكذا يرى (دانييل كُوْيل) بأن مثل هذه اللقاءات هي عصب الحياة ومفتاح الإبداع والتفاهم والانسجام ما بين أفراد أي منظمة أو مجموعة ما. وعلى هذا المنوال، يكون منهجية (توني شيه) بسيطة جدًا وقليلة التَكَلُّف، فقط قابل الناس وتعرف عليهم، وستتضح الرؤية أمامك.  

وفي تجربة أخرى، تم إجراء ذات الأسلوب في المواجهة والمقابلات الشخصية ما بين عدد من الأفراد العاملين لدى مجموعة من الشركات الهندسية وتم تسجيل العديد من الملاحظات فيما يتعلق بمُمارَسات العمل المتبعة لديهم. والنتيجة الجوهرية التي تم التوصل إليها بأن أنجح المشاريع هي تلك التي تم الاتفاق عليها والعمل على إنجازها كانت قد تمت مابين أفراد قادرين على العمل بموجب منهجية تواصل وتفاهم عالي المستوي فيما بينهم.  

والتساؤل هنا: هل كان هؤلاء الأفراد يتمتعون بمستويات ذكاء متقاربة؟ هل اكتسبوا شهاداتهم الجامعية في كليات ومعاهد متقاربة من حيث المستوى والجودة التعليمية؟! هل حققوا درجات متقاربة من حيث السلم التحصيلي لدرجات التخرج؟ هل كان لديهم الخبرة العملية الكافية، أم أنهم كانوا يتمتعون بأعلى مهارات القيادة؟  
 طبعًا لا! ما لوحظ هو أن السبب الوحيد والرئيسي في الانسجام وقوة التواصل الحاصل ما بين هؤلاء الأفراد هو التقارب في المسافات والتجاور المكتبي ما بين مكاتب هؤلاء.

إن إنشاء فريق عمل ناجح لا يتعلق بالضرورة بكم الذكاء والخبرات والكفاءات التي يتمتع بها أفراد الفريق، لا بل قد يعود لأسباب أبسط من ذلك بكثير، كقرب المسافات في حيز العمل الذي يعمل به فريق العمل المعني.   وهكذا نرى بأن التقارب ما بين أفراد المجموعة الواحدة يحقق الوصول إلى أعلى المستويات من التواصل والانسجام.   

بعض الأفكار للعمل بموجبها

إن بناء جو من الثقة والأمان يتطلب منك التعرف على مختلف الظروف المحيطة من أجل التعامل معها بحنكة ليتسنى لك إيصال التعليمات والإرشادات على نحوٍ صحيحٍ وفي الوقت المناسب.      

  • أظهر للآخرين بأنك مهتم بالاستماع لآرائهم ومشاكلهم بكل آذانٍ صاغية:  

يجب أن تكون لغة الجسد لديك على النحو الآت: أن يكون رأسك منحنٍ بعض الشيء إلى الأمام، ونظرك صَوْب الشخص المتحدث أمامك، وحاجباك متقوسان إلى الأعلى للتعبير عن اهتمامك بكلامه. 
كن قليل الحركة ومتزنًا في جلستك، منحنيًا نحو الشخص الذي يتحدث إليك للإيحاء له بأنك مصغٍ لكل كلمة يقولها لك.

  • في بداية تعاملك مع الآخرين، إن كنت لست على دراية ببعض الأمور، فلا بأس أن تظهر ذلك لمن هم حولك:   

حيث يكون ذلك أمرًا ضروريًا إن كنت قائدًا لمجموعة ما: افصح عن مكنوناتك، فلا بأس من ارتكاب بعض الأخطاء، فكلنا يخطئ، واطلب المساعدة والمشاركة من الآخرين حولك من خلال بعض العبارات المعبرة من قبيل "هذا رأيي بكل تواضع."  "من يدري، فقد أكون مُخطئاً في هذا الأمر."  "هل فاتَني شيء ما؟" "فما هو رأيك، أخبرني من فضلك؟"   

  • لا تلق باللائمة على من يخبرك ببعض السلبيات:   

ومن أهم اللحظات التي تُعْنَى بخلق بيئة تسودها الثقة والأمان تتجسَّدُ عندما يقوم بعض أفراد المجموعة بمشاركة الأخبار السيئة أو يدلون بآرائهم الشخصية بأسلوبٍ ناقدٍ ولاذعٍ بعض الشيء. وهنا يجب على قائد المجموعة أن يتحمل النقد الحاصل الذي أدلى به أفراد مجموعته، وأن يمنحهم الفسحة الكافية من الأمان لتزويده بتلك الآراء الناقدة. وبناءًا على هذا التصرف الرشيد من طرف قائد المجموعة، يكون بذلك قد هيأ الأجواء لترسيخ  بيئة من المعاملة الصادقة ما بين أفراد مجموعته في كل موقفٍ تكون فيه المجموعة تتطلب تقييمًا ونقدًا ذاتيًا.    

  • إظهار الشكر والامتنان بمختلف الطرق والأساليب:   

إن توجيه عبارة "شكراً" ليست الوسيلة الوحيدة لإظهار الشكر والامتنان ما بين أفراد المجموعة الواحدة.  لا بل هنالك العديد من التصرفات لإظهار الامتنان وهي من الايماءات والإشارات الانتمائية الأساسية لتهيئة بيئة من الثقة والأمان والتواصل والتحفيز على بذل المزيد من الجهد.  

  • الاستثمار المجدي في اللحظات والظروف الحاسمة لترسيخ قيم ومبادئ الثقافة الجمعية:  

عند انضمامنا إلى مجموعات جديدة، فإن تفكيرنا في تلك اللحظة سينحصر أمام أحد الخيارين التاليين:
إما أن نتواصل وننسجم مع هذه المجموعة أو أن نختلف معها. 
وعلى هذا المنوال، فإن الثقافات الجمعية الناجحة تتعامل مع تلك اللحظات والظروف الحاسمة بمستوى عالٍ من الأهمية والمسوؤلية.  

المهارة رقم ٢: إظهار قابلية التأثر بالآخرين والتعلم من تجاربهم وخبراتهم:  

إن طرح السؤال التالي على أفراد المجموعة له تأثير سحري على قدرتها لتقديم أفضل ما لديها:
"أخبروني بما تريدون، وسوف أبذل قصارى جهدي لمساعدتكم."   

فالمهم في هذه العبارة هو إظهار الرغبة الحقيقية للأخذ بالآراء والحلول المطروحة من طرف أفراد المجموعة وإظهار قابلية التأثر بهم. نعم، هذا التصرف يصعب على قادة المجموعة تَقَبُّله، ولكنه ضروري جدًا لبناء بيئة من الثقة والأمان.

وعندما نراقب عن كثب المجموعات المتماسكة والمنسجمة فيما بينها، ففي العديد من الأحيان نلاحظ بيئة عمل تسودها أجواء من التعاون المبني على الثقة والسلاسة في التعامل وتبادل المعلومات والخبرات. وهذه اللحظات أو الأحيان تبدو جلية للعيان عندما تتواجه هذه المجموعات مع موقف أو عقبة صعبة تعترض طريقها نحو الوصول إلى أهدافها المنشودة. وهكذا عندما تكون هنالك أسس ثابتة وراسخة من التخطيط والتواصل لدى المجموعة الواحدة، فإننا نلاحظ بأن أفراد هذه المجموعة يتصرفون كخلية نحل متعاونة فيما بينها لإيجاد الحلول لأصعب المشاكل والعقبات التي تواجهها.      

حلقة قابلية التأثر الإيجابي اللامتناهية

وعلى نحوٍ بديهيٍ إلى حدٍ ما، فإن قابلية التأثر ما بين أفراد المجموعة الواحدة تؤدي بطبيعة الحال إلى ميل أفراد المجموعة للتعاون والثقة المتبادلة. نعم، هنالك فهم مغلوط بأن قابلية التأثر ما بين الناس هي علامة من علامات ضعف الشخصية، ولكنها على العكس من ذلك لدى المجموعات وفرق العمل الناجحة. في بيئة العمل، طلب المساعدة من الآخرين ليس عيبًا، لا بل يرسل رسالة واضحة مفادها بأنك بحاجة إلى المساعدة ولتَعَلُّم شيء جديد لتجاوز عقبة وحل مشكلة ما. وعند قيام أفراد المجموعة الواحدة بتطبيق هذا الأمر على نحوٍ اعتيادي، عندئذ سيكون بمقدور كل فرد منهم القيام بالمهام المنوطة به والإحساس بالثقة بباقي أعضاء المجموعة ومساعدتهم على إنجاز مهامهم كما يراد.      

أهمية الطرف الثاني لإنجاز مهمة من المهمات المطلوبة.  

الشخص (أ) يوحي بطلب المساعدة (قابلية التأثر)
الشخص (ب) يتلقى طلب المساعدة (قابلية التأثر)
الشخص (ب) يستجيب من خلال الإيحاء بطلب المساعدة (قابلية التأثر) كذلك.
الشخص (أ) يتلقى طلب المساعدة (قابلية التأثر).
وعلى هذا المنوال، يتم وضع أساس للتواصل والتقارب ورفع مستويات الثقة ما بين أفراد المجموعة الواحدة.    

دائما تكون الخطوة الأولى في أي عملية تواصل وبناء ثقة هي قابلية التأثر ومن ثم تأتي عملية بناء الثقة بعدها، وليس العكس. إن الإقبال على خوض غمار تجربة جديدة مجهولة بالنسبة لنا وطلب المساعدة من أجلها يؤدي بطبيعة الحال إلى بناء جسور متينة وراسخة من الثقة ما بين أفراد المجموعة الواحدة. 
يجب على أفراد المجموعة الواحدة أن يتجاوزوا أي عامل مثبط، أو طاقة سلبية تعترض طريق إنجاز المهام المنوطة بهم، ليتسنى لهم بناء روح التعاون من دون أي تردد أو خوف من المجهول. فالتعاون هو أساس كل عمل ناجح ينفذه أفراد المجموعة كفريق عمل موحد ومتماسك.

إن تعاون أفراد المجموعة من خلال قابلية التأثر والتعلم من بعضهم البعض لا يأتي جُزَافًا. لا بل هو نمط حياة يجمع أفراد تلك المجموعة على تحقيق هدف وغاية سامية، ناتجة عن سلسلة من التفاعلات والتصرفات المتكررة مابين  أفراد تلك المجموعة، الذين يخوضون غمار عملية تعاون شاملة، تواجه في بعض الأحيان كَمّاً من المصاعب والعقبات التي يتجاوزونها على نحوٍ يأتي بالفائدة على الجميع.    

الكيفية التي من خلالها يتم وضع أساسات روح التعاون ما بين أفراد المجموعة:  
طريقة (نايكويست)

وهنا يستشهد (كُوْيل) بقصة السيد (هاري نايكويست- Harry Nyquist)، المهندس السويدي ذو الطباع الهادئة،  لدى شركة (بيل لابز- Bell Labs).  فحوى القصة يتمحور حول تناول وجبة الغداء على نحوٍ اعتيادي بصحبة السيد (نايكويست).  

حيث كان يشتهر (نايكويست) بسمتين شخصيتين جوهريتين. أما السمة الأولى فهي الحنان. حيث عرف عن السيد (نايكويست) سعيه لجعل الآخرين من حوله يشعرون بأنهم أشخاص ذوي قيمة ويهتم لأجلهم. أما السمة الثانية التي تمتع بها هذا الإنسان فهي عشقه لطرح الأسئلة والفضول إلى معرفة المزيد وحب الاستطلاع. 
وفي بيئة عمل تتنوع فيها المجالات العلمية، جمع السيد (نايسكويت) اتساع مجالات المعرفة وتنوع مصادرها مع شغفه الواضح بالبحث عن المزيد من العلاقات الإيجابية البناءة. لقد تمتع هذا الشخص القيادي بحب اكتشاف الأفكار الجديدة وطرح الأسئلة والبحث الدؤوب عن الأجوبة لها. 
كان يتميز السيد (نايكويست) بحنكة وذكاء قل مثيله في عصره من خلال معرفته بما كان الآخرون يحاولون فعله، وطرح الأفكار الجديدة عليهم، ومن ثم مواجهتهم بالسؤال التالي: "لم لا تحاولون فعل ذلك؟"  

يقول البعض "إن كان الكلام من فضة فالسكوت من الذهب"، ولكن في كثير من الأحيان يكون هذا السكوت ما هو إلا إنصات وإصغاء لما يقوله الطرف الآخر في الحديث، وهنا في الواقع تكمن العبرة من هذا الكلام.        
ويحدث الانسجام ما بين أطراف الحديث عندما يتحدث أحدهم وينصت الآخرون لذلك الطرف المتكلم وهكذا يتم تبادل أطراف الحوار على نحوٍ راقٍ ما بين أفراد المجموعة الواحدة.

وللعلم يصعب على الفرد أن يكون متعاطفًا مع الطرف الآخر في الحوار عندما تتم مقاطعة الكلام ما بين أطراف الحديث القائم. وهنا تكمن أهمية الاستماع للطرف الآخر عند الكلام. ولهذا السبب فإن عملية الكلام وتبادل أطراف الحوار تبدو معقدة، فالمرء أثناء الكلام يكون منشغلًا في التخطيط والتفكير بما يريد قوله، وفي بعض الأحيان تخونك الكلمات للتعبير عما يدور في خَلَدِك. 
إلا أن هذا الأمر  لن يحدث لك عندما تكون الطرف المنصت والمستمع لكلام الشخص الآخر أثناء الحوار. ولهذا السبب تمضي الساعات واللحظات الجميلة كلمح البصر عندما تكون حَسَنَ الإصغاء. فالاستماع للطرف الآخر أثناء كلامه يعود عليك بسمة التواضع الحميدة وذلك لإظهارك شيئًا من التعاطف أثناء كلامه.
وعلى هذا النحو، يكون الهدف الرئيسي من عملية الحوار هو الوصول إلى صيغة تفاهم وتواصل مع الطرف الآخر.

بعض الأفكار للعمل بموجبها

يُنْصَح بالعمل على تَحَلِّي الفرد القائد للمجموعة بأخلاق التواضع مع أفرادها، وأن يكون قابلًا للتأثر بهم واستقاء العبرة والحكمة منهم.  
إن أجمل اللحظات التي تجمع أفراد المجموعة الواحدة هو أن يكون قائدها مَثَلًا في التواضع مع باقي أفراد مجموعته عبر إظهار قابليته للتأثر بهم، والاستماع لنصائحهم.  

إليك ببعض النصائح التالية لتجريبها واتباعها إن أمكن ذلك:  

عندما يتم تشكيل مجموعة جديدة، حاول أن تركز شديد انتباهك على اللحظتين الحاسمتين التاليتين:  وهما:
لحظة قابلية التأثر الأولى، ولحظة الخلاف الأول.
 فالأمور والعواقب التي تحدث أثناء هاتين اللحظتين ستؤديان بشكل حتمي إلى حدوث أحد المسارين التاليتين بالنسبة لأفراد المجموعة الواحدة: هل سننجرف في غرورنا وكبريائنا على نحوٍ فارغٍ، أم أننا سنحاول بكل ما أوتينا أن نتفهم الموقف والمعضلة الصعبة التي تواجهنا في هذه الأثناء؟  هل سنسعى لتحقيق انتصارات فردية، وهمية، لا معنى لها، أم أننا سنسعى للتَعَلُّم من تجاربنا وخبراتنا كمجموعةٍ واحدةٍ متماسكةٍ منسجمةٍ فيما بينها؟

وفي هكذا لحظات سيحدث أحد الأمرين التاليين، فإما أن ينطوي أفراد المجموعة كل لوحده، متمسكًا برأيه، مبررًا الأخطاء المرتكبة بشكلٍ غير معقول على نحوٍ يؤدي بالمجموعة إلى حدوث توتر ونزاع غير منطقي.
أو، أن يأخذ هذا الأمر منحىً إيجابيًا، كأن يقول أحدهم "هذه المشكلة لا ضير منها، سنحلها سويةً."، "لما لا نتفق على صيغة حل لهذه المشكلة الحاصلة؟"، "قد أكون مخطئًا في اقتراحي هذا، وأود أن آخذ النصح منكم، ولما لا نتحدث عن هذه المشكلة بشكلٍ مستفيض، فقد نَصِلُ إلى حل لها." وما ينتج عن تلك اللحظات الحاسمة سوف يرسم بشكل حتمي مسارًا تجري باقي الأمور بموجبه.     

عند تبادل أطراف الحديث، حاول عدم شخصنة الأمور لصالحك أو أخذ موقف سلبي من الطرف الآخر في الحوار: إن المحور الأهم عند قيامك بعملية قابلية التأثر بالآخرين لا يكمن فيما تقول، على العكس تمامًا، بل يكمن في قدرتك على الصمت والإصغاء للآخرين. وهذا يعني أن تمنع نفسك من التصرف على نحوٍ انتهازي لتحَيُّنِ الفُرَص على حساب الطرف الآخر في الحديث، وذلك ليتسنى لك تقديم الحلول و طرح المقترحات عند الضرورة.     
ويلاحظ بأن المستمعين الماهرين لا يقاطعون أطراف الحديث بعبارات من قبيل:" عفوًا، لدي هذه الفكرة" أو "دعوني أخبركم عما حدث معي أو ما ناسبني فيما يخص مثل هذه الحالة"، وذلك لأنهم يعلمون بأن الموضوع أو الحالة لا تخصهم لوحدهم أو لا تشير إليهم حصرًا.    

لِيَكُن كلامك مطابقًا لسلوكك:  

وذلك ينطبق على المجموعات التي تتسم بقدر كبير من التعاون حيث أنها تستخدم اللغة لتعزيز علاقات أفرادها التبادلية واعتمادهم على بعضهم البعض. على سبيل المثال، فقادة الطائرات العائدين إلى حاملة الطائرة لا يصرحون عن عودتهم إليها بعبارة: "سأهبط"، بل يقولون عبارة: "أُذِنَ لِيَ بالهبوط."  
مثال آخر: شركة (إيديو-IDEO) العالمية المعنية بخدمات التصميم والابتكار ليس لديها موظفين بمنصب "مدراء مشاريع"، بل لديها "قادة فرق تصاميم.".

قد تبدو أمثلة العبارات التي ذكرناها بسيطة أو ذات دلالات لفظية طفيفة، ولكنها في حقيقة الواقع مهمة جدًا على اعتبار أنها تعبر عن طبيعة بيئات فرق العمل التعاونية، فهي توحي لنا بوحدة الهوية المهنية التي تجمع تلك المجموعات وتماسك علاقات أفرادها فيما بينهم.

إن كنت تتمتع بدور محوري لدى مجموعة ما، فعليك تَقَبُّل دور "اللاعب الاحتياط" أحيانًا:     

مثلًا، توجد عادة لدى فريق الرغبي النيوزيلندي (أوول بلاكس -All-Blacks) بالسماح للاعبين بقيادة بعض الجلسات التدريبية للفريق أسبوعيًا من دون أو بقليل من الإرشادات من طرف مدربي الفريق الرسميين. حيث قال مدرب الفريق في هذا الموضوع مايلي: "لقد تَمَكَّنوا من إدراك وفهم ما يجب عليهم تنفيذه على نحو أفضل مني."    

المهارة رقم ٣: وضع الأسس والمفاهيم للوصول إلى الأهداف والغايات المنشودة:

عندما قام (كُوْيل) بزيارة بعض المجموعات الناجحة، كان قد لاحظ بأنهم عندما أرادوا التعريف عن غاياتهم أو قيمهم أو هويتهم المهنية، كانوا يسعون لتنفيذ تلك الغاية على نحو يثير التعجب لدى زائر أماكن عمل تلك المجموعات. لقد بدأ هذا الأمر جليًا على بيئة أماكن العمل. فمثلًا، عند دخولك إلى مقر الإدارة العامة للقوات الخاصة في البحرية الأمريكية في مقاطعة (دام نك-Dam Neck)، في ولاية (فيرجينيا-Virginia)، ستشاهد بعض الأعمدة الحديدية الملتوية من ركام تفجير مركز التجارة العالمي، وعلم من مدينة (مقديشو-Mogadishu) الصومالية، بالإضافة إلى العديد من النصب التذكارية التي تعود إلى عناصر في القوات الخاصة في البحرية الأمريكية.
عناصر البحرية الأمريكية من القوات الخاصة لا يحتاجون للتذكير بمهامهم وأساليبهم وتكتيكاتهم عند تنفيذ العمليات القتالية، ومع ذلك فإن مقر القيادة لتلك القوات، وبكل ما يحتويه من نصب تذكارية، يشير إلى أهمية تلك التعليمات التي يتلقاها عناصر القوات العاملين في ذلك المقر.
وفي الحقيقة، فإن تلك المجموعات، التي تعلم تمامًا ما تمثله من هوية ثقافية، تخصص كمّاً هائلًا من وقتها لتخبر الآخرين بحكاياها وتاريخها، وفي الآن ذاته تُعِيدُ تذكير أفرادها بذلك التاريخ وبتلك الحكايا إلى ما لا نهاية. 

ما السبب في ذلك، يا ترى؟  يعود السبب في ذلك، أو الهدف من وراء ذلك إلى رغبة المجموعات في وضع أسسٍ ومبادئٍ يسترشد بها التائهون في رحلة البحث عن الهدف المشترك من خلال تركيز جهودهم عليه، لا فقط للخوض في غمار نزوات أو رغبات حسية غامضة. فالثقافات الناجحة دائمًا ما تسعى بشكلٍ حثيثٍ في هذا الاتجاه على نحوٍ لا يكل ولا يمل من أجل إخبار الآخرين عن هويتها وتاريخها. 
وتنفيذًا لذلك، فإنها تعمل على إرساء بيئة عمل لتحقيق غايات وأهداف سامية.   

إن بيئات العمل المثلى لدى المجموعات الناجحة عادة ما تزخر بالإشارات والإيحاءات المفعمة بالحياة على نحوٍ دقيقٍ لإنشاء حالة من التواصل مابين الواقع الحالي والرؤية المثالية لمستقبل تلك المجموعات.  إن بيئة العمل المثلى توفر شيئين لتسهيل التعامل ما بين أعضاء المجموعة من خلال توفير نقطة بداية تتمثل بالوضع الراهن للمجموعة ووجهة الوصول أو الحالة المثالية التي يجب أن تكون عليها المجموعة الناجحة مستقبلًا.
بكل بساطة، نحن هنا عند نقطة البداية (الحالة الراهنة)، وذلك هو الهدف أو نقطة النجاح التي يجب أن نحققها و نصل إليها في السنوات القادمة.

قد يكون ذاك المستقبل المشترك للمجموعة ماهو إلا عبارة عن هدف أو سلوك مُتَبَّع لبلوغ ذلك الهدف. الأمر سَيَّان بالنسبة لأفراد المجموعة. في الحقيقة، ما يهم هو وضع حجر الأساس للتواصل والعمل بلا كلل ولا ملل للمحافظة على تماسك المجموعة لتحقيق الغاية الأسمى لها، ألا وهي الإخبار عن تاريخ المجموعة وقصة نجاحها.
عادةً عندما تردنا قصة ما، عن إحدى المجموعات الناجحة، فإن جل ما يشغل تفكيرنا هو كيفية بداية قصة نجاح تلك المجموعة وتأثيرها على الآخرين والمغزى الحقيقي من وراء تلك القصة.
تروى القصص ليس فقط بهدف التسلية فحسب، لا بل يقصد منها إرساء أسس وقواعد التفكير السليم الذي يكون سببًا لتَبَنِّي السلوكيات والتصرفات السليمة.  

إن بيئات العمل المثلى تُعْنَى بإرسال إشارات وإيحاءات جلية الوضوح بالتوازي مع الأهداف المشتركة التي وضعتها المجموعة لأفرادها. وأهم ما في تلك البيئات هو التطبيق المنسجم مع الهدف المنشود ولا شيء غير ذلك. 
ولهذا السبب فهي غير معنية بالوعظ والخُطَبْ الرنانة، لا بل نجدها في لحظات الحياة اليومية عندما يكون بمقدور الأفراد فهم المقصد والرسالة المثلى من وراءها.
وهكذا، يجب علينا العمل بجد واجتهاد لأجل تحقيق الأهداف التي نسعى من أجلها.

كيف يتسنى لنا خلق بيئة عمل مثلى؟  

تكمن الإجابة في نوع المهارة التي يتحتم على فريق أو مجموعة العمل اكتسابها. 
في بيئات العمل الناجحة، يكون بمقدور المجموعة أداء مهامها على نحوٍ غاية في الدقة والموثوقية، أما في بيئات العمل المبدعة يكون بإمكان المجموعة ابتكار الأشياء وأساليب العمل الجديدة.     
إن هذا التمايز ما بين البيئتين جوهري في أصله لأنه يشير إلى نوعين من التحديات التي تواجه أي فريق أو مجموعة عمل وهما: الثبات على جودة المستوى والأداء، والإبداع أو الابتكار.    

كيفية القيادة للوصول إلى ثبات المستوى وجودة الأداء  

خير مثال على ذلك هو فريق الرغبي النيوزيلندي (أوول بلاكس). فهم يتغنون بالشعارات والأهازيج التالية، من قبيل "اترك القميص وشأنه وانظر إلى الأمام" و "إن كنت غير مستعدٍ للتفوقِ في أي مجال في الحياة، فستبقى تراوح مكانك.". كما أنهم يتحدثون أيضا عن "المحافظة على الهدوء" عوضًا عن "الانجراف وراء المشاعر الجياشة"، وهم يشيرون في ذلك إلى "رجاحة العقل وسلامة التفكير عند مواجهة الصعوبات." فضلاً عن "جودة الأداء: جودة تمرير الكرة"، و "الإبقاء على اللعب مستمرًا من دون توقف" وغيرها من الشعارات مثل "ارتداء قميص النادي ورفع شعاره هو الشرف بعينه وليس مهنة عابرة" و "أفضل الناس هم الأَخْيَر لتمثيل النادي."، ولهذا السبب ترفع مثل تلك الشعارات والعبارات لترسيخ قيم ومبادئ بيئة العمل المثلى، ولم لا يكون لشركتك أو منظمتك شعارات على غرار ما ذكر أعلاه لاستنهاض روح النشاط والحيوية لدى أعضاء فريق العمل لديك.  

كيفية القيادة للوصول إلى الإبداع

وحسب ما يبدو، يُنْظَرُ إلى القيادة المبدعة على أنها شيء غامض، وقد يعزى السبب في ذلك إلى اعتبار الإبداع على أنه موهبة وقدرة من نوع خاص على رؤية أشياء ومخترعات جديدة لم يتم ابتكارها حتى يومنا هذا. 
ولهذا السبب، عادة ما نرى في القادة المبدعين فنانين من أصحاب النظرة الثاقبة إلى المستقبل. إلا أن (كُوْيل)، الذي التقى بالعديد من قادة المجموعات الثقافية الناجحة، لا يرى الكثير منهم على تلك الصورة. لا بل لاحظ بأنهم أشخاص يتكلمون بهدوء ورصانة منقطعة النظير، من هؤلاء الذين يخصصون الكثير من وقتهم لملاحظة الأشياء، ومن ذوي الشخصية الانطوائية التي ترغب بالتحدث عن الأنظمة والعمليات وأساليب العمل، إلى ما هنالك.
وأردف قائلاً: بأن هولاء القادة يُدركون بأن فِرَق العمل عادة ما يُبدعون في أداء مهامهم عند تمحورها حول إيجاد الحلول للمشاكل التي يواجهونها، ولا ضير بقليل من النصح والإرشاد عندما يأتي من طرف شخص ذو نفوذ ومكانة عالية.    
ونتيجة لما سبق، يقوم هؤلاء القادة بترك زمام أمور القيادة لفرق العمل، لإتاحة المجال لهم للإبداع من خلال الاكتفاء بإدلاء النصيحة والإرشاد، ومن ثم إخبار أعضاء الفريق بأنه "قد حان الوقت لأخذ زمام المبادرة."

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *