٦ وظائف مستقبلية في مجال صناعة التمويل
لقد اعتدنا سابقا على الظن أن الالتزام بوظيفة في مجال التمويل، سيضمن أماناً وظيفياً مدى الحياة، وظيفة موثوق بها ويمكن الاعتماد عليها من أجل حياة هادئة روتينية ثابتة، مع الكثير من الآلات الحاسبة والبدلات الرسمية! كل هذه الأمور ستتبادر إلى ذهن كل واحد منّا عند التفكير في أي وظيفة داخل مجال التمويل.
إلا أن الرياح لا تجري كما تشتهي السفن! فالثورات التقنية المتسارعة، وقنبلة تقنيات الذكاء الاصطناعي التي انفجرت في عصرنا الحالي، أثرت بشكل كبير على أساسات جميع الوظائف في شتى المجالات والصناعات، وليس مجال التمويل فحسب. فما كنا نعتقده سابقاً بأن بإمكاننا اختيار وظائف أو مهن أكثر استقراراً من غيرها، أصبح الآن أمراً من الأحلام.
في تقارير وإحصائيات حديثة، وجد أن ١.٣ مليون عامل في المصارف في الولايات المتحدة الأمريكية يحتمل أن يفقدوا وظائفهم، أو يعاد تعيينهم في وظائف أخرى بسبب التحوّل للأنظمة المؤتمتة آلياً! أما على الصعيد العالمي، فيتوقع بعض القادة من المجال المالي أن ٥٠٪ من الوظائف في ذات المجال قد تزول وتختفي!
ومع تطور المجال التقني، ماهي الوظائف التي يُعتَقد أنها ستصبح بلا قيمة! هل سيقوم رجل آلي باحتساب ضرائبنا في المستقبل؟ وفي ذات السياق، ما هي الفرص الجديدة والوظائف المبتكرة التي ستظهر في المستقبل؟
يقول فان دان برينك الرئيس التنفيذي للخبرات والتوظيف في بنك (ABN AMRO) في أمستردام: "هناك العديد من التغيرات التي تحدث، والتي يمكننا تسميتها بمصطلح: الهجرة العظيمة، وذلك بسبب سيطرة الأنظمة المؤتمتة وأنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي التي عملت وماتزال تعمل على تحسين العمليات التجارية، وبالتالي سيؤثر على الوظائف في الصناعة المالية، ومن الناحية الأخرى ستظهر وظائف جديدة. التحدي الأكبر الذي يواجه جميع الشركات التي تقدم الخدمات المالية هو كيفية تحسين وتطوير وإعادة تأهيل مهارات ما يقارب ٥٠ – ٦٠٪ من الموظفين في ظل توقع ظهور وظائف جديدة لا يمكنني التفكير بها بهذه اللحظة".
بناء على التوجهات الحديثة التي نراها اليوم، مازال بإمكاننا التكهن، بشأن قائمة معينة من الوظائف المستقبلية التي ستكون ضرورية في مجال الصناعة المالية، في مقالنا هذا سنأخذكم في جولة عصف ذهني لبعضها، فتابعوا القراءة.
أهم الوظائف المستقبلية التي يعتقد أنها ستظهر في مجال الصناعة المالية.
١. قنّاصو الفرص التقني-مالية / وقد يطلق عليهم حلقات الوصل بين الشركات !
تعمل الشركات الناشئة التي المتخصصة في مجال التقنية المالية، والمقرضون الصغار والبنوك حديثة العهد، على تعطيل الصناعة التمويلية الرقمية بسبب عروضها الابتكارية، حيث تضع الشركات والبنوك الكبرى في حرج شديد فتضطر لإعادة صياغة عروضها ورفع الحالة القصوى للجري في سباق محموم في طريق الابتكار المالي، مما يؤدي إلى تغيير سريع، ونقلة نوعية في مجال الصناعة التمويلية، كما أن تلك الشركات الناشئة ستكون السبب الرئيسي لتبدأ الشركات والبنوك الكبرى بعملية الاستحواذ على الصغارالجدد في هذا المجال أو البدء بشراكة معها، لتقليل زعزعة صورتها التي رسمتها طوال السنوات الماضية.
لنعطي مثالاً حيّاً على ذلك: حيث تم مؤخرا فرض غرامة مالية وصلت ٧٧٥ مليون يورو على بعض البنوك الكبرى بسبب فشلها في الكشف عن عمليات غسيل الأموال ، ولكن مع تزايد المنظمات الإجرامية وتطور أساليبها التي تخفي بها عملياتها، تعمل بعض البنوك مثل بنك (HSBC) مع إحدى الشركات الناشئة التي قامت بتطوير أنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، قادرة على الكشف عن أصغر عمليات الاحتيال. كذلك قام بنك (ABN AMRO) بالتعاون مع إحدى شركات تحليل البيانات الإسرائيلية الضخمة والتي تدعى Thetaray والتي تدرس التصرفات البشرية الحدسية وتعيد تحليلها في عملية صنع واتخاذ القرار، للوصول إلى أي تصرف أو نشاط مشبوه وغير واضح تقوم به المنظمات الاحتيالية.
تماماً، وكما هي حياة السوق العادي، فإن اصطياد الفرص في الصناعة التقني-مالية ماتزال متقلبة وغير مؤكدة، ومع ذلك فإن الأجيال الشابة تتوجه بشكل واضح للبحث عن حلول مبتكرة قائمة على التقنية لاستخدامها في البنوك التقليدية (الأكثر استقراراً).
ووفقاً لمؤشر اضطراب جيل الألفية، فإن نصف الفئة التي تمت دراستها في مجال الصناعة المالية، تعتمد أو تثق بالشركات الناشئة والحديثة لإصلاح طريقة عمل البنوك التقليدية، و ٧٣٪ منهم أبدى حماسه لتقديم تلك الشركات الناشئة للخدمات المالية في البنوك الوطنية.
وسواء كان ذلك من خلال عملية الاستحواذ أو من خلال عمليات الشراكة أو التعاون، فإنه من الواضح أن صناعة التقني-مالية ستستفيد مستقبلا من الخبرة والاستقرار والثبات التي توفره الشركات والبنوك الكبرى وفي ذات الوقت بدلا من النظر إلى الشركات الناشئة باعتبارها تهديداً للأمن والأمان المالي، ستستفيد البنوك الكبرى من الحلول الابتكارية الذكية التي تقدمه لها تلك الشركات الصغرى.
٢. مهندس تمويل بإدارة ذاتية
وبما أن الإدارة اللامركزية والضغط الناجمين بسبب ظهور التقنية المالية، تدفع البنوك الكبرى لتنويع خدماتها أبعد في الأعمال المصرفية التقليدية، فإن العديد من المؤسسات المالية ستصبح مصدراً معرفيا لتوجيه الأفراد في عملية صنع القرارات المالية، مما يترك أثراً حاسماً وواضحاً في المناخ الاقتصادي الحالي.
من المؤسف أن نلاحظ أن جيل الألفية أقل كسباً للأموال من الجيل السابق، ولن يعتمد على اية معونات، والمساعدات الحكومية قد تصبح أقل أو قد تختفي في ظل نظام بيئي واجتماعي من المحتمل جداً أن يتغير هو الآخر.
وكإضافة للمزيد من البنزين إلى النار التي تحترق فيها الصناعة المالية، ستلاحظ أن المزيد من الأشخاص أصبحوا يتحولون كموظفين مستقلين، متخلين عن الأمن المالي المستقبلي والمعاشات التقاعدية ضاربين بكل تلك الأمور عرض الحائط من أجل وظائف متغيرة لا يتعدى الالتزام بها شهرا واحداً.
يقول فان دن برينك: " ما يقارب ٢٥ – ٣٥٪ من سوق العمل في أمستردام مكّون من موظفين بدوام حر أو مستقلين، لكن هناك معضلة، وهي أن المرونة لا ترتبط بتاتا بمستقبل مالي آمن، وبالتالي فإن التحول نحو العمل الحر لا يعتبر حتى الآن نموذجا مستداماً."
هناك الكثير من النقاشات التي تدور حول كيفية تأمين العمالة في مجتمعاتنا الحالية المتغيرة والتي يتبعها نماذج أعمال متغيرة أيضا، والسؤال المطروح هو أنه من الذي ينبغي عليه قيادة هذا التغيّر.
وهنا، يبرز دور المؤسسات المالية بمساعدة المجال التقني، حيث يتوجب التدخل لتحسين وإدارة الثروة (والذي كان مصطلحاً محصوراً فقط بأولئك الذين يمتلكون فعلياً قدرا لا بأس به من الثروة التي ينبغي إدارتها). ولكن! كما تحدث عملية التحول للقيادة الذاتية للسيارات، فإن التمويل بقيادة ذاتية يعطي فرصة للموظفين المستقلين الذين يتبنون مبدأ العمل الحر بإدارة أموالهم بشكل مستقل أيضاً.
وباستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، فإن إعادة تمويل القروض الطلابية والرهون العقارية ستصبح تلقائياً أمراً ممكناً في حينه، ويمكننا في ذلك الوقت أن نقوم بإجراء استثمارات طويلة الأجل ثم إعادة توازنها وتحسينها عند الحاجة.
وبالنسبة لمن يرغبون بالمزيد من الرقابة على مواردهم المالية، فإن هناك العديد من الابتكارات التقنية منخفضة التكلفة والتي تتضمن التفاعل بين الإنسان والحاسب ستسمح لهم بتصميم برامجهم الخاصة لإدارة الثروة.
٣. مدير الثروة المستدامة
يخبرنا السيد فان دن برينك بأن تحليل البيانات والاستدامة تعتبر من أهم المهارات المطلوبة في وقتنا الحاضر، حيث أن أكبر التوجهات المطروحة هو التحول نحو استدامة الثروات الأمر الذي يمثل تحديًا كبيرًا لنماذج الأعمال الحالية كما أنه يغير الكثير من نماذج الأرباح.
ولكن، كيف يمكننا ترجمة ذلك إلى مهارات مطلوبة لتغيير نماذج الأعمال، وإقناع العملاء بضرورة التحول للطاقة المستدامة؟ الأمر لا يتعلق بالانتقال فقط إلى نموذج عمل أكثر استدامة، فالشركات والأفراد التي تستفيد من التجارة في الطاقة المستدامة مثل أوبر وإير بي أند بي، قد رسمت لنا طرقاً جديدة لتوليد الدخل، وأوضحت لنا أن التجارة الخضراء يمكن أن توفر لنا مصادر دخل جديدة وجيدة.
ولكن لنسأل أنفسنا السؤال التالي على سبيل المثال: كيف يمكننا معرفة كمية الألواح الشمسية التي نحتاجها لتحقيق الأرباح، وكيف يمكننا المفاضلة بين الاستثمار في الطاقة الشمسية مقابل الاستثمار في طاقة الرياح؟
عندما تصبح السيارات الكهربائية أكثر شعبية بين العامة، فإن الحوافز الحكومية والتخفيضات الضريبية ستؤدي إلى تحسين الأمور نوعا ما، لكن كيف يمكننا تحديد ما هو الأفضل لنا في هذه الحالة؟ وكيف سنقوم بإدارة الأمور؟
من أجل القيام بالتحوّل، لابد من مراقبة التغييرات المستمرة والطارئة من حولنا، وبالتالي لابد للبنوك الكبرى أن تحفز هذا التحوّل والانتقال للاستفادة من عمليات التمويل أو إعادة الهيكلة أو التفكير بطريقة مختلفة لتخصيص رأس المال لتطوير الثروة المستدامة، وللوصول إلى كل هذا، تم إضافة قيمة حديثة في البنوك، ألا وهي عمليات التبادل المعرفي ودعم العملاء أثناء عملية تحولهم نحو الاستدامة.
لن تكون الفائدة مقتصرة فقط على مساعدة العملاء للتحول نحو الأنشطة المستدامة، بل تقوم بإجراء تعاون مع العملاء من أجل وضع معايير جديدة لتحسين العمل المصرفي في البنوك، وكمثال على هذا التعاون نذكر أن بنك (ABN AMRO) بالإضافة للعديد من البنوك قاموا بالتوقيع على مبادئ بوسيدون التي تركز على التقليل من انبعاثات الكربون أثناء عمليات الشحن الكبيرة حول العالم، لضمان التزام عملائها بذلك.
٤. مختص العملات الرقمية
بطبيعة الحال، لا يمكننا الحديث عن مستقبل صناعة التمويل دون الدخول في نقاش حول العملات الرقمية، حيث بدأت البنوك الكبيرة في الاستقصاء عن الدور التي قد تؤديه تلك العملات في تنمية الصناعة المالية، على الرغم من أن تلك القضية ما تزال محل جدل كبير بسبب نقص التشريعات، مما يجعل الاعتماد على هذه العملة محفوفا بالمخاطر.
على أية حال، لسنا بحاجة للآلاف من الناس الذين يعرفون كيفية عمل تلك العملات الرقمية، بقدر ما هو مهم أن نفهم الأنظمة الجديدة وتقلبات السوق وإمكانية التعاون المستقبلي لتحسين مجال الصناعة التقني -مالية.
إن عالم العملات الرقمية ما يزال غامضاً جدا بالنسبة للمستثمرين وحتى لصناع السياسة، مما يجعلها فكرة ما تزال تحتاج للكثير من الدراسة والطبخ على نار هادئة! لهذا يأتي دور المختصين الماليين الذين يفهمون حاجة السوق التقليدية مما قد يمكنهم من تطبيق مهارات مماثلة تتناسب وصرعة العملات الرقمية.
لقد أصبح التنبؤ المالي الفائق، مهارة جديدة جداً والتي تشجع المتخصصين الماليين على التركيز عليها من أجل الحصول على توقعات مالية أفضل، من خلال القدرة على تحليل الأحداث الحالية والماضية بموضوعية ودقة، وتجزئة المشاكل المعقدة إلى أخرى صغيرة يمكن حلها، والتخلص من التحيّزات المحتملة في عمليات صنع القرار.
تطبيق هذه المهارة في السوق قد يساعد المستثمرين على عملية التحول والانتقال بشكل أفضل في السوق.
٥. موظف اتئماني
مع الفضائح الأخيرة لتسريب البيانات التي طالت فيس بوك والذي يعتبر أحد عمالقة التقنية في العالم، فإن فيس بوك، قام بتحديث قانون حماية البيانات العامة ولوائحه بشكل صارم من أجل حماية البيانات الخاصة.
ومؤخراً تعرضت البنوك الهولندية لحملة شرسة بسبب تزويد بعض عملائها بمعلومات الانفاق الشخصية من أجل القيام بالإعلانات، مما اضطر أحد موظفي مكتب هيئة الحماية بتوضيح الأمر قائلا أن المعلومات المتعلقة بمعاملات الدفع للمستشفيات والصيدليات ونوادي المتعة وغير ذلك، تعتبر بيانات شخصية حساسة، إلا أن نظام التمويل الذاتي قد يستفيد من تلك البيانات المصرفية الشخصية لمساعدة الناس على إدارة أموالهم بشكل أكثر فعالية، ورغم ذلك، ينبغي علينا زيادة الوعي والشفافية مع عملائنا فيما يتعلق بتدابير حماية البيانات الشخصية. وهنا يأتي دور موظف الاتئمان الذي سيقوم بتوضيح كيفية استخدام البيانات المالية بطريقة شفافة.
٦. مسؤول عمليات التعاون بين الشركات معا ضمن مجال الأمن السيبراني
على المستوى الخارجي، نلاحظ أن هناك المزيد من التعاون القادم بين الشركات. ونرى أن المزيد من التعاون بين الشركات قادم. انها ليست مجرد شراكة مع مؤسسات الصناعة التقني-مالية، لكنها الحاجة الملحة لذلك، ومع تطور طبيعة الأمن السيبراني وضرورته، يدرك الجميع بلا استثناء (سواء كانوا شركات كبرى أم ناشئة أم صناع السياسة) أنه لا يمكن ضمان الأمن على أسس فردية، لذا نحتاج تعاون أكبر للتقليل من آثار طبيعة الهجمات الإلكترونية المتكاثرة.
وللتركيز على أهمية ذلك، تم استضافة أول مؤتمر للأمن السيبراني في هولندا وبالتعاون مع بنك (ABN AMRO) وهذا يعتبر خطوة أولى للاعتراف بأهمية هذا المجال، إلا أننا نحتاج لتكريس وتكثيف الجهود ليس فقط من أجل منع الهجمات السيبرانية، لكن أيضا من أجل إنشاء حلقة وصل بين مسؤولي الأمن السيبراني للمؤسسات كافة.
في الختام، هذه توقعاتنا المستقبلية من أجل الوظائف التي ستظهر قريبا في مجال التمويل، والذي يبدو جليا هو أن التقنية قد تحل محل عدد لا بأس منها من الوظائف التقليدية الحالية، إلا أن العديد من الوظائف الجديدة والتي ستظهر على السطح حسب حاجة السوق لها، وتزامنا مع تطور احتياجاتنا البشرية.
إنه لمن المثير أن نعايش هذا العصر الذي يشهد صدامات وشيكة بين التقنية والبشر، مما سيؤثر على تلك الوظائف المتوقعة بشكل جلي وواضح.
وفي حين أن التقدم التقني في مجال القطاع المصرفي ضروري ومهم، فإننا نعلم أن وجود العامل بشري أمر ضروري ومسلم به، لذا يجب علينا أن نركز على المهارات البشرية التي لا غنى عنها كالإبداع والابتكار والمبادرة والتفكير النقدي والقيادة، وسيكون دوما هناك حاجة إلى الموهوبين في مجال التمويل.
المصدر: The Next Web
جميله