الثورة الصناعية الرابعة: هدم الحواجز بين الخدمات والصناعة
حسب التقرير الصادر عن اليونسكو للعلوم بعنوان: "نحو عام 2030"، فقد بدأت بعض أكثر البلدان تقدماً من الناحية التقنية في العالم في تشجيع الصناعات الإبداعية، وذلك من أجل تنشيط قطاع الصناعات التحويلية، وهذا الاتجاه أصبح جلياً بالفعل في كل من أوروبا والولايات المتحدة و جمهورية كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، حيث أصبحت الصناعات الإبداعية المحرك لما أطلق عليه تسمية "الثورةالصناعية الرابعة"، التي ستجلب إنترنت الأشياء وإنترنت الخدمات إلى القطاع الصناعي.
بعد إدخال سياسة "خفض الكربون والنمو الأخضر" في عام 2008، بدأت كوريا الجنوبية بالتشديد على "الاقتصاد الإبداعي" في عام 2013، وذلك كجزء من الجهود الرامية إلى تنشيط قطاع الصناعات التحويلية في مواجهة المنافسة الشرسة التي تواجهها من الصين واليابان، وفي كلمتها الافتتاحية في فبراير 2013، وصفت الرئيسة (باركجيون هاي) رؤيتها للتنمية الوطنية بـ"تلاحم العلوم والتكنولوجيا مع الصناعة ،واندماج الثقافة مع الصناعة، والانفتاح الإبداعي عن طريق كسر الحواجز بين الصناعات".
الثقافة هي المحرك الاقتصادي في العصر الرقمي
أصبحت السلع الثقافية المحرك الاقتصادي في العصر الرقمي اليوم، وقد أظهر التقرير الذي صدر حديثاً حول عولمة السلع الثقافية أن التجارة العالمية التي تختص بالسلع الثقافية قد تضاعفت بين عامي 2004 و 2013، وذلك على الرغم من الأزمة المالية العالمية التي حدثت بين عامي 2008-2009 والتحول الهائل لرواد السينما وعشاق الموسيقى للبحث عن الخدمات التي تقدمها شبكة الإنترنت، حيث كان لرقمنة المنتجات تأثيراً هائلاً على الصناعات الثقافية، فعلى سبيل المثال، انخفضت التجارة الموسيقية المسجلة بنسبة 27% منذ عام عام 2004، وبنسبة 88% للأفلام، وفي المقابل اكتسبت الخدمات السمعية والبصرية ككل شعبية كبيرة منذ ذلك الوقت.
بعد عقود من الاعتماد على التكتلات الكبيرة لتحريك الاقتصاد، تسعى كوريا الجنوبية حالياً لتصبح أكثر ابتكاراً وإبداعاً، والتحدي سيكون تعزيز ثقافة الابتكار في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم (المشاريع الصغيرة والمتوسطة) وتحويل المجالات إلى مراكز للصناعات الإبداعية، وذلك تبعاً لتقرير اليونسكو للعلوم، وأحد الأمثلة على نهج حكومة (بارك) هو مدينة الاقتصاد الإبداعية، وهي عبارة عن منصة متصلة ومنفصلة عن الإنترنت تسمح للأفراد بتبادل وتسويق أفكارهم، ويقوم فيها المهنيون من مختلف المجالات ذات الصلة بدور المرشدين، وتوفر المدينة المشورة القانونية بشأن حقوق الملكية الفكرية وغيرها من القضايا، وربط المبدعين الناشئين مع الشركات التي تمتلك القدرة على تسويق أفكارهم، أما المثال الثاني فهو إنشاء مركز الابتكار للاقتصاد الإبداعي من قبل الحكومة في عام 2014 في دايجون، التي تعتبر حاضنة للأعمال التجارية.
كول جابان "Cool Japan"
في اليابان، كان للركود الناجم عن الأزمة المالية العالمية تأثير دائم على ثقة المستثمرين، ولا تزال الشركات اليابانية مترددة في زيادة الإنفاق على الأبحاث والتطوير أو رواتب الموظفين، وتبتعد عن أخذ المخاطرة، لدرجة أن الأمور أصبحت أصعب على الشركات اليابانية المنافسة في السوق العالمية في مجال إنتاج السلع المستقلة، ولكن يشير تقرير اليونسكو للعلوم أن"الصناعة اليابانية يمكن أن تستخدم قوتها التكنولوجية لتلبية الطلب العالمي على ابتكارات الأنظمة الموجهة القائمة على الشبكات المدعومة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات"، وسيكون ذلك تماشياً مع استراتيجية الحكومة الشاملة للعلوم والتكنولوجيا والابتكار لعام 2013 التي تروج لـ"زيادةالذكاء" و"المنهجية" و"العولمة"، التي تحدد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتكنولوجيا النانو والتكنولوجيا البيئية على أنها أولوية في المجالات المتقاطعة.
يشير تقرير اليونسكو للعلوم بأن أحد الاحتمالات التي يمكن لليابان اتباعها هي تعزيز الصناعات الإبداعية في مجالات مثل المحتويات الرقمية، وخدمات الإنترنت والسياحة والمطبخ الياباني، وخاصة أن وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة كانت تروج لمبادرة كول جابان (CoolJapan) لعدة سنوات حتى الآن، والتي بلغت ذروتها من خلال إنشاء شركة (CoolJapan Fund) بموجب القانون الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر لعام 2013 لمساعدة الصناعات الإبداعية في اليابان بالانتشار إلى الخارج، وهذه المساعي يمكن دمجها بشكل أكثر ضمن سياسة اليابان للعلوم والتكنولوجيا والابتكار.
لا توجد شركات أوروبية رائدة على شبكة الإنترنت
وفقاً لاستراتيجية "أوروبا 2020"، وهي الخطة الاستراتيجية العشرية للاتحاد الأوروبي للنمو الذكي والمستدام والشامل، فإن الاستخدام غير الكافي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي واحدة من نقاط الضعف الهيكلية التي أدت إلى وجود فجوة إنتاجية في أوروبا، ومن أجل وضع الاتحاد الأوروبي (EU) على طريق النمو الذكي، تم وضع جدول أعمال رقمي لأوروبا لاستغلال إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على نحو أفضل من خلال الترويج لسوق رقمية موحدة، وقد تم تطبيق هذه الاستراتيجية من قبل بلدان جنوب شرق أوروبا، التي تمتلك رغبة مشتركة لتبني نموذج الابتكار العلمي الموجه للاتحاد الأوروبي، فاستراتيجيتها الخاصة والتي تدعى(SEE2020) تعطي الأولوية للنمو الذكي من خلال التعليم والكفاءات، والبحث والابتكار، والمجتمع الرقمي والقطاعات الثقافية والإبداعية.
يعبتر الاتحاد الأوروبي غائباً إلى حد كبير عن ساحة الشركات القائمة على شبكة الإنترنت التي تعمل بأشكال جديدة وناشئة من الابتكار، فتبعاً لما أشار له (داونز) في مقال نشر في مجلة (HarvardBusiness Review) في عام 2015 من خلال سؤاله للكيفية التي يمكن لأوروبا من خلالها إنشاء "وادي السيليكون" الخاص بها، وخاصة أن الشركات الـ15 الكبرى القائمة على الإنترنت في العالم لا تنتمي إلى أوروبا (11 منها من الولايات المتحدة والباقي صينية)، أجاب (داونز): "في الواقع، فإن محاولات الاتحاد الأوروبي لتكرار تجربة وادي السيليكون لم ترق إلى مستوى التوقعات، حتى أن عمالقة الاتحاد الأوروبي الرئيسيين المتخصصين في الأجهزة والذين يعملون داخل الاقتصاد الرقمي(سيمنس واريكسون ونوكيا)، فقدوا الكثير من أرضيتهم في العقد الماضي في مجال البحث والتطوير العالمي والتصنيف، وذلك حتى بعد أن انضمت شركة البرمجيات وخدمات تكنولوجيا المعلومات (SAP) التي تتخذ من ألمانيا مقراً لها مؤخراً إلى قائمة أفضل 50 شركة لتقديم خدمات البحث والتطوير في العالم، وعلى الرغم من أن شركات الاتحاد الأوروبي شكلت 30% من إجمالي الشركات التي تنفق ميزانية جيدة على الأبحاث والتطوير في قائمة أفضل 2500 شركة في العالم في عام 2014، فلم يكن هناك سوى شركتين فقط من شركات الاتحاد الأوروبي في المراكز العشرة الأولى، وكلاهما من قطاع السيارات، وهما فولكس فاجن وديملر".
فرنسا وألمانيا: احتضان الاقتصاد الرقمي
تسعى كل من فرنسا وألمانيا لتحديث البنية التحتية الصناعية لديها وتبني الاقتصاد الرقمي، وذلك من أجل هدم الحواجز بين الخدمات والصناعة، والتي كانت في حالة فرنسا، مكافحة اللاصناعية التي كانت مسؤولة عن فقدان 750,000 وظيفة خلال العقد الماضي، حيث أعلنت فرنسا عن مشروعها صناعة المستقبل في أبريل/ نيسان من عام 2015، الذي يركز على تسعة أسواق ذات أهمية كبيرة، وهي: الموارد الجديدة، المدن المستدامة، التحرك البيئي، النقل المستقبلي، الطب المستقبلي، اقتصاد البيانات، الكائنات الذكية، الثقة الرقمية، والغذاء الذكي، وقد بدأت مقترحات المشروع منذ ذلك الحين بالانطلاق في المجالات المستقبلية مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد (3D)، والواقع المعزز والأشياء المترابطة، والشركات التي سيتم إحداثها في هذه المجالات ستحظى بتخفيضات ضريبية وقروض ميسرة.
تنوي كل من فرنسا وألمانيا تطوير مبادرات مشتركة، حيث أن مشروع صناعة المستقبل قد تم تصميمه جنباً إلى جنب مع مشروع خاص بألمانيا يدعى "الصناعة 4.0" وذلك في إشارة إلى الثورة الصناعية الرابعة، يتضمن ستة مبادئ توجيهية وهي: التوافقية (بين الأنظمة المادية الإلكترونية والبشر)،الافتراضية (التي تستطيع من خلالها الأنظمة المادية الإلكترونية مراقبة الإنتاج)، اللامركزية (حيث تكون الأنظمة المادية الإلكترونية قادرة على اتخاذ القرارات بشكل مستقل)،القدرة الآنية (لتحليل بيانات الإنتاج)، توجه الخدمة (داخلياً ولكن أيضاً من خلال تقديم المنتجات الفردية)، والنمطية (التكيف مع المتطلبات المتغيرة).
منجهة أخرى، فقد أصبحت الصناعات الإبداعية هدفاً لدعم الحكومة في بلدان الإتحاد الأوروبي الصغيرة، فمثلاً تم وضع سياسات الابتكار في هولندا لعام 2011 لتعزيز بيئة الأعمال المواتية لتسعة قطاعات أساسية، وهي الزراعة، الأغذية، البستنة توليد المواد، نظم التكنولوجيا الفائقة والمواد، الطاقة، التخطيط والتنفيذ، علوم الحياة،الكيمياء، الماء، والصناعات الإبداعية.
إلى جانب ذلك، كان منافسو أوروبا يستثمرون أيضاً في البحوث حول رقمنة الصناعة، وذلك تبعاً لما يذكره تقرير اليونسكو للعلوم، ومن الأمثلة على ذلك، مركز إنترنت الأشياء في الصين، وشراكة التصنيع المتقدم في الولايات المتحدة الأمريكية، ومقر إبتكار الأنظمة المادية الإلكترونية الهندي، والجدير بالذكر أن صناعة تكنولوجيا المعلومات في الهند (IT) تمتلك ميزة تتمثل في تقديم ستة من أصل عشر براءات اختراع جديدة في الهند، و 92% منها يتم تأمينها من قبل الشركات متعددة الجنسيات المملوكة للأجانب.
عمالقة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات: دمج الحقيقة الافتراضية بالمادية
تأتي بعض من التكنولوجيات الأكثر ابتكاراً من عمالقة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قدمت (أمازون) خدمات تشبه مخازن الطعام لتلبية احتياجات المستهلكين في الوقت الحقيقي تقريباً، كما تمتلك جوجل حالياً العديد من المنتجات التي تجمع بين الحوسبة والعالم المادي، بما في ذلك جهاز تنظيم الحرارة الذاتي، وتطوير أول نظام تشغيل مخصص للأجهزة المنخفضة الطاقة، ولعل المشروع الأكثر أهمية وروعة بينها هو سيارة جوجل ذاتية القيادة، والتي من المقرر أن يتم طرحها للأسواق التجارية في السنوات الخمس المقبلة.
وفي هذه الأثناء، تقوم شركة الفيسبوك بتطوير تقنية الواقع الافتراضي من خلال امتلاك هالخوذة (OculusRift)، وهو نهج سيتيح للأشخاص الاندماج في البيئة الرقمية، وليس العكس،كما ويجري تطبيق أجهزة الاستشعار الصغيرة التي ستسهل هذا النوع من الاتصال على الصناعاتوالرعاية الصحية، وتجرب الشركات الجديدة أيضاً استخدام البيانات الناتجة عن تتبع النشاطات الشخصية لإدارة الأمراض المزمنة مثل مرض السكري، ومثال آخر هو جنرال الكتريك، فنظراً لأنها تعتمد على عقود الخدمة للحصول على جزء كبير من إيراداتها، فهي تستثمر حالياً في تكنولوجيا الاستشعار لجمع المزيد من المعلومات حول أداء محركات الطائرات أثناء الرحلات.
المجتمعات الرقمية والاقتصادات: أولوية عالمية
تصمم البلدان النامية على عدم جعل قطار الثورة الصناعية الرابعة يمر دون اللحاق به، وكثير منها بدأت بوضع السياسات لتعزيز المجتمعات الرقمية والاقتصادات، فمثلاً يهدف مشروع سمارت سري لانكا، إلى تحفيز التنمية الاقتصادية من خلال الابتكار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ويمكن تلخيص أهدافه على النحو التالي: القيادة الذكية،الحكومة الذكية، المدن الذكية، الوظائف الذكية، الصناعات الذكية، ومجتمع المعلومات الذكي، وقد تم إنشاء نحو 800 مركز للاتصال في أنحاء البلاد في العقد الماضي لربط مجتمعات المزارعين والطلاب وأصحاب المشاريع الصغيرة بالمعلومات والتعلم والفرص التجارية، وبالمختصر، فإن المدن الذكية هي مراكز حضرية مستقبلية تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين الخدمات العامة، مثل النقل والرعاية الصحية والمرافق العامة وتوفير الكهرباء والمياه، الخ...
في أفريقيا، حيث لا تزال إمكانية الوصول إلى الإنترنت غير متوافرة إلى حد كبير على الرغم من أن معظم الأشخاص يمتلكون هواتف محمول، تحاول المراكز التكنولوجية تطوير تطبيقات للقطاعات الاقتصادية التي تتراوح من القطاعات الزراعية إلى القطاعات الصحية والحد من مخاطر الكوارث، ومن الأمثلة على ذلك مركز الإبتكار في الكاميرون، (MEST)في غانا، مركز آي في كينيا، مركز المشاركة في الإبتكار في نيجيريا، سمارت إكس شينج في جنوب أفريقيا، كولاب سيل في أوغندا و(BongoHive) في زامبيا، وفي ديسمبر 2013، أعلنت الحكومة الكينية خطط لتأسيس مراكز للتكنولوجيا والابتكار في جميع محافظاتها الـ47.
من ناحية ثانية افتتحت المغرب ثالث حديقة تقنية لها في طنجة في عام 2015، وكان ذلك بدعم من وزارة الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، ومثل سابقاتها في الدار البيضاء والرباط، تستضيف الحديقة الرقمية الجديدة الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتكنولوجيات الخضراء والصناعات الثقافية.
نما قطاع البرمجيات في كوستا ريكا ليصبح واحداً من أكثر الصناعات حيوية في أمريكا اللاتينية منذ وصول إنتل وهيوليت باكارد و IBM في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وقد أصبح هذاالقطاع اليوم يمتلك أكثر من 300 شركة تنتج البرامج للأسواق المحلية والدولية،لدرجة أن السلع عالية التقنية شكلت حوالي 45% من الصادرات المصنعة في عام 2013، أي أكثر بكثير من أي بلد آخر في أمريكا اللاتينية، غير أن هذا السوق تأثر برحيل إنتل في عام 2014.
في أماكن أخرى من القارة، بدأت الصناديق القطاعية التنافسية مثل (FONSOFT) في الأرجنتين و(PROSOFT) في المكسيك بتحسين نوعية إنتاج البرمجيات وتعزيز الروابط بين الأوساط الأكاديمية والصناعة، وحالياً تخطط الإكوادور لتطوير أول مركز معرفي في القارة، يسمى (Yachay)، الذي سيركز على علوم الحياة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وعلوم النانو والطاقة والبتروكيمياء، ويتوقع بنك التنمية الأمريكي المشترك أن تكون كل من بوينس آيرس وكوردوبا في الأرجنتين، ومونتيفيديو في أوروجواي، وسان خوسيه في كوستاريكا وسانتياغو في تشيلي أهم خمسة أعمدة في أمريكا اللاتينية لتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وصناعة البرمجيات بحلول عام2025.
المصدر: منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة
اترك تعليقاً