كلمة للخريجين
معالي د. هاشم يماني 2023/12/15
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أصحاب المعالي والسعادة الزملاء الكرام
زملائي الأساتذة
أبنائي الطلبة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذا الملتقى البهيج لخريجي مدرسة طيبة الثانوية 1445 نستذكر أيامنا في هذا الصرح الشامخ والتراث الحي الذي لازال يدفع سنويا بنخب متميزة من خريجيه في مضمار الحياة لخدمة هذا الوطن العزيز
والحياة مضمار، وخدمة الوطن شرف وواجب، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
وعبر الأجيال تميزت مدرسة طيبة الثانوية بتبوء خريجيها المراكز المتقدمة في التنافسية لخدمة الوطن
وتبقي الحقيقة ثابتة أن الحياة مضمار للتنافس، ولكن شروط التميز لا تبقى ثابتة، بل تتغير عبر تعاقب الأجيال
فلقد كانت مدرسة طيبة الثانوية دائما مرآة تعكس خصائص طيبة الطيبة التي جعلت العلم والتعلم أبرز ملامحها وامتازت في ذلك عن أقرانها الأكبر منها والأصغر
ومع مرور السنين، والتطور الهائل في منظومة التعليم في المملكة، وزيادة الوعي بأهمية الإعداد والتأهيل، واستفادة المثابرين من الطلبة في جميع مناطق المملكة من المزايا المعروضة، وفي نفس الفترة توسع المدينة وتطورها في مناحي كثيرة من مناحي الحياة العصرية، وتزاحم اهتمامات أبنائها على أولوياتهم، أدى كل ذلك إلى أن:
ضاقت فجوة التميز، واصبحت المنافسة أشد
وفي هذا خير للوطن
فبعلو الهمم والتدافع الإيجابي يتحسن الأداء ويرقى الوطن في المنافسة الأهم والأوسع وهي المنافسة بين الأمم
وهناك سؤال مهم يجب طرحه ومحاولة الإجابة عليه:
ففي ظل المتغيرات - بعضها أسرع من بعض - ماهي المبادئ التي يمكن أن يسترشد بها الطالب في مدرسة طيبة الثانوية - وبالأحرى أي طالب في أي مدرسة وأي مدينة - لكي يعظم عطاءه لوطنه ومدينته وعائلته ونفسه؟
أول هذه المبادئ الاسترشادية وأهمها هو التوجه إلى الله بطلب التوفيق:
يقول الأمام علي كرم الله وجهه
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
ويكمل - رضي الله عنه - الشق الثاني لهذا المبدأ الاسترشادي فيقول:
وإن كان عون من الله واصلا تأتي له من كل شيء مداده
المبدأ الإسترشادي الثاني: هو الاجتهاد
قال تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
وقال سبحانه: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم"
والأمثلة على جدارة هذا المبدء ووضوحه كثيرة، عبر الأزمنة والأمكنة
فيؤثر عن علو همة المتنبي واجتهاده على الرغم من أنه نشأ في بيئة غير معينة له على ذلك، أن قيض الله له - كما قيض لكم - فرصة التعليم بالمجان - من أحسن مصادره، وكان أصحاب المكتبات يشجعونه على أن يقرأ الكتب بدون مقابل.
ويروى أن وراقا كان يلازمه المتنبي حكى فقال: كان عندي عندما أحضر رجل كتابا في ثلاثين ورقة لبيعه، فأخذه أبو طيب المتنبي ونظر فيه، فقلت له: ما هذا؟ أريد أن أبيع هذا الكتاب وقد قطعتني عن ذلك لأنك ممسك بالكتاب تتأمل فيه، فإذا أردت حفظه فهذا يكون في شهر إن شاء الله فقال المتنبي إن كنت حفظته في هذه المدة؟ أي في الفترة منذ أن استلمت الكتاب!) قال الوراق أهبه لك، فقال المتنبي اسمعه مني قال الوراق فأخذت الدفتر من يده، وأقبل يتلوه إلى آخره
ولكل مجتهد منكم الفرصة التي اتيحت للمتنبي بل وأكثر، فالمسارات متعددة التي تشجع المجتهدين وترعاهم
ثالث هذه المبادئ الاسترشادية هو حسن الاستعداد للتعامل الصحي مع المستقبل، لأنه هو الواقع الذي نحن متوجهون إليه
وحسن التعامل يقوم على ركيزتين أساسيتين
- الركيزة الأولى: أن الماضي مضى، ويشكل مخزونا تراثيا ثقافيا مليئا بالعبر والدروس المستفادة وهذا ما يوكده القرآن الكريم عندما يذكر قصص من كان قبلنا ... للتذكير والعبر واستخلاص الدروس
- الركيزة الثانية: أن الإنسان - مسلحا بهذه الدروس والعبر - يجتهد ويخطط – مع طلب العون من الله - أن يعظم احتمالية نجاحه في المستقبل
والسؤال هو: كيف يمكن لأي طالب - بل أي إنسان - تحقيق ذلك في ظل عدم اليقين، وتعدد الاحتمالات؟
والجواب هو أن يصنع الإنسان - بتوفيق الله – مستقبله بنفسه
فهنالك ثلاثة أنماط للتخطيط للمستقبل:
- فالذين يتبعون النمط الأول هم الذين لا يخططون للمستقبل بل يحاولون التكيف مع المتغيرات التي تتوالي، ومثلهم كمثل الراكب في سيارته يسلك طريقا غير معبد تكتنفه حفر وصخور فلابد له من التحكم المستمر في عجلة القيادة حتى يسلك أحسن المسارات هنا وهناك بحرص وبطء
- وأما الذين يتبعون النمط الثاني فهم أولاء الذين يخططون ولكن لمسافات زمنية قصيرة للوصول إلى أهداف مرحلية معينة، وربما يكتب الله لهم التوفيق على المدى الطويل، ولكن في الغالب الأعم يجد هؤلاء أنفسهم حبيسي هذه المستهدفات القريبة زمنيا التي بدورها ربما تؤدي إلى إجهاض الفرص لتحقيق أهداف أسمى وأقوى
- أما من يتبنى النمط الثالث فهو المرء الذي يخطط على مدى زمني طويل لتعظيم مساهمته لرفعة هذا الوطن، متقبلا وراضيا باحتمالية أن يكون مستوى نجاحاته المرحلية - في عيون أقرانه ومن يهمه رأيهم - أدنى من مستوى نجاحات الذين تبنوا النمطين الأول والثاني. فمثل الذي يتبنى هذا النمط في التخطيط لمستقبله كمثل الذي يخطط لاجتياز مفازات ووديان وغابات وسهول باستكشاف طبيعة طوبوغرافية هذه الأرض الواسعة من طائرة تحلق عاليا فيفاضل بين بدائل الطرق المتاحة ويختار أوثقها قبل بداية الرحلة
وهناك وسائل كثيرة تساعدنا في مسعانا لاستشراف المستقبل على المدى الطويل، مثل رؤية 2030 الوطنية، وما سيتلوها، والخطط القطاعية التي تحتويها هذه الرؤية مثل برنامج تنمية القدرات البشرية الذي يذكر بالتفصيل القيم والسلوكيات وأيضا المهارات المستقبلية الرقمية والداعمة والمهارات الاجتماعية والعاطفية والمهارات العملية والبدنية المطلوبة للموجة العالمية الرابعة وما يليها من موجات مستقبلية
وكما أن هناك مصادر وثقت وضوح الرؤية عند عدد من المفكرين في الماضي فهناك الآن من المفكرين ممن لهم باع معتبر في تقدير وتقويم أحوال المستقبل
ففي الستينيات من القرن الماضي ابتدع المفكر الكندي (مارشال) ماكلوهان - Marshall) Mcluhan مفهوم القرية الكونية) ليصف الإنتاج والاستهلاك اليومي للصور والمعلومات عبر الوسائط المتاحة في جميع أنحاء العالم ، تماما كما يحدث من تناقل للمعلومات بين سكان القرية الصغيرة، وهو ما تحقق ونعيشه اليوم تلقائيا وبدون استغراب
وفي الأربعينات من القرن الماضي اقترح الفيزيائي وكاتب قصص الخيال العلمي البريطاني آرثر سي كلارك - Arthur Clarke) إمكانية استخدام عدد قليل من الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض كل 24 ساعة لتمكين التواصل أنيا بين أي نقطتين على الكرة الأرضية، وهذا ما نعيشه الآن تلقائيا وبدون استغراب
ومع تعاقب الأجيال وتقدم التطبيقات العلمية تضاءل طول الفترة بين إطلاق التنبئ بخصائص المستقبل ورؤية هذه الخصائص محققة على أرض الواقع وفي كل فترة تتأكد للعالم مقولة لاعب كرة البيسبول الأمريكي يوقي بيرا - Yogi Berra الذي قال باللهجة العامية The future ain't what it used to be.
وترجمة هذه للمقولة هي : لم يعد المستقبل كما تعودنا عليه في السابق
وبعد جهد جهيد في محاولة فهم هذه المقولة التي يكتنفها الغموض، وبتغيير طفيف في المنظور يتبين وضوح احد مقاصد هذه المقولة: أنه كلما تقدم الوقت كلما تطور وتغير تصورنا وتقديرنا للمستقبل لدرجة أنه يصبح - وباستمرار مختلفا عن تصوراتنا السابقة لهذا المستقبل وهذه المقولة تتوافق مع ماقاله آرثر سي كلارك:
Any sufficiently advanced technology is indistinguishable from magic.
لا يمكن التفريق بين تطبيقات أي واحدة من التقنيات المتقدمة جدا ونتاج ممارسة السحر وهو ما يؤكده ـ أحد أجدادنا لو كتب له البعث في هذا الزمان، والتساؤل – مندهشا ومستغربا بل وقلقا - إن كنا نمارس تعاويذ سحرية في حياتنا اليومية.
وبعد: فاصنعوا أيها الشباب مستقبلكم مستعينين بتوفيق الله أولا ثم بالتخطيط طويل المدى لاستشراف خصائص المستقبل والاجتهاد والصبر والمثابرة ليبقى خريجو طيبة الثانوية في الصفوف المتقدمة في مضمار المنافسة لخدمة هذا الوطن وخدمة الأمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المدينة المنورة