سمات تطبيقات التعليم والتعلم الإلكترونية، كيف للمشروعات الناشئة الاستفادة منها؟

الوضع الليلي الوضع المضيء

د. محمود أبو سيف - دار مسارات للاستشارات

الحقيقة جاءت فكرة هذا المقال من منطلقات عدة، أولها أن التعليم أحد القطاعات الحيوية، به الكثير من الفرص التي يمكن استثمارها بعيدًا عن الأفكار التقليدية؛ ثانيها إن عقلية الاستثمار في التعليم في العالم العربي بحاجة إلى تغيير جذري، ثالثها إن الاستثمارات الحديثة في الغالب تعتمد على المستفيد ولا تكلف صاحب المشروع الكثير.

أبدأ بمجموعة من الأسئلة، وهي هل أصبح الاستثمار في التعليم في عالمنا العربي مقتصر على إنشاء مدرسة أو جامعة بتكلفة باهظة؟ هل الأفكار الريادية لا تلقى دعمًا من المستثمرين بالدول العربية؟ أم إن العقول المبتكرة بحاجة إلى تجديد؟

لذلك من خلال الاطلاع والخبرات المختلفة وضعت بين أيدكم مجموعة من الخصائص للمشروعات التعليمية التي لاقت نجاحًا:

خصائص المشروعات الإلكترونية المُبتكرة في التعليم والتعلم 

بمراجعة المشروعات الناشئة والعملاقة في مجالات التعليم والتعلم والتي تُقدم من بعد من خلال مواقع أو تطبيقات، فقد لاحظت عليها بعض الخصائص المتقاطعة أو المشتركة أو المتفردة بواحدة أو من مجموعة من الخصائص التي أذكرها أدناه، هذه الخصائص تُساعد المُبتكرين والباحثين عن أفكار استثمارية من الشباب من تحقيق الاستفادة القصوى، خاصة في الأسواق الناشئة والواعدة في هذا المجال مثل الدول العربية، وبالأخص السوق السعودي الداعم لهذه التوجهات، أذكر بعض هذه الخصائص في الآتي:

  1. الاعتماد على أسلوب "الأوبرة Uberization"

هذا النوع من الأفكار أصبح اتجاهًا في الكثير من المجالات، إلا إنه في مجال التعليم بدأ يتوسع بقوة، فهذا النوع من الأفكار لا يحتاج إلى موارد بشرية أو مادية أو بنية تحتية كبيرة، كما إن تكاليفه بسيطة، وعائده كبير لو أحسن تنفيذه وقراءة سوقه بشكل جيد. فهو يعتمد على حاجة الطرفين، حاجة طرف مالك الخدمة أو المهارة أو المعرفة في الانتشار والحصول على عوائد مالية لم يجدها في بيئته، وحاجة المستخدم في تلبية احتياجاته التي يصعب الحصول عليها من بيئته. فعلى سبيل المثال قد تحتاج أسرة تعليم أطفالها اللغة الإنجليزية بطلاقة، حينها يجدون مئات المعلمين المتاحين على تطبيقات مثل Preply أو Cambly، وغيرها الكثير، والحقيقة إن فرصنا في العالم العربي والإسلامي كبيرة، والسوق العالمي مفتوح دون استثمارات جيدة في هذا الجانب، فلدينا كنز كبير ( القرآن والسنة)، يتوفر عملاؤه بقوة سواء المعلمين أو المتعلمين. والأمثلة كثيرة في هذا الجانب، فهناك الكثير من عمليات التعليم والتعلم التي يتوفر بها الكثير من المشروعات المعتمدة على فكرة الأوبرة مثل البحث العلمي والمراجعة اللغوية والتحرير، ومواقع أخرى للتدريب مثل Utobo أحد الأفكار الريادية الناشئة للمدربين الخاصين.

2. معالجة تحديات التعقيد في السوق الواقعي

يعتمد الترويج للمشروعات التعليمية الإلكترونية على البساطة والسهولة، وأقصد بالتعقيد هنا هو عمليات البحث عن الكفاءة، ومستوى الخطورة المتوقعة، وعمليات الدفع، ومستوى رخص الخدمة، فأضرب لكم مثال شخصي، أثناء بحثي عن معلمة ناطقة باللغة الإنجليزية الأم لتعليم ابنتي في صف ثاني ابتدائي وجدت عبر موقع بربلي بدائل كثيرة ومميزة، ووجدت تقييمات لك واحد منهم، وتنوع كبير في التسعير. أشرح لكم خبرتي في البساطة أولها من حيث البحث وجدت تقييمات بالمئات مع مقارنتها بالسعر، حتى وصلت لأفضل تقييم مع أقل سعر فقط ب 10 ريالات للساعة، في حين أن أقل ساعة في العالم الواقعي تتراواح بين 100-300 ريال للساعة، فالفارق الذي قدمه لي الموقع كبير. الأمر الثاني في البساطة هي عملية المتابعة، ولها جانبان هما تقييم الموقع وتقييم الشخصي فبكل سهولة أحضر مع ابنتي وأقيم أداء المعلمة، والموقع يقدم لك بدائل للتقييم، الأمر الثالث وهو سهولة إدارة الوقت، ورابعها هو سهولة الدفع.

إذن انطلاقًا من هذا كيف يمكننا كباحثين عن إنشاء مشروعات مبتكرة في التعليم الاستفادة من البساطة. لو فكرنا في حجم التعقيدات التي يواجهها- طالب الجامعة على سبيل المثال- في مراجعة المحاضرات والاستعداد للاختبارات- سنجد إن تطبيق صغير يجمع الأستاذ أو الطالب كمقدم خدمة، والطالب كمستفيد ستجعل من العملية غاية في البساطة وتوفر الكثير من رأس المال الأسري المهدر في هذه العملية. 

٣. الاعتماد على أسلوب اللعب

ما لاحظته في تطبيقات كثيرة في مجال التعليم هو الاعتماد على اللعب، فاللعب يجذب الأطفال وحتى الكبار في قضاء أكبر وقت على التطبيق، حيث إن هذه الطريقة تجعل تطبيقات الألعاب التعليمية تجربة ممتعة وجذابة ومثيرة. إذن أنت داخل لعبة، فعلى سبيل المثال مع تطور الأفكار في التعلم مثل تعليم STEM أو التعليم المرتكز للمفاهيم والأفكار الكبيرة Concepts and big ideas (كما غالبية المناهج الدولية) نجد أحد التطبيقات القائمة على اللعب مثل  codeSpark Academy فهذا التطبيق يساعد الأطفال على تعلم STEM والتفكير الناقد. إضافة لمئات التطبيقات أو حتى الآلاف المعتمدة على اللعبة. 

الحقيقة هذه الخاصية ذكرتني بتوجه جيد قابلني شخصيًا لمركز مكافحة المخدرات نبراس في المملكة العربية السعودية، والذي كان يستهدف إبتكار لعبة للأطفال في سن التعليم الأساسي لتجنيبهم مخاطر المخدرات.

على الرغم من إن هذا الأسلوب قد لا يجذب الكثير من ذوي الأفكار الناشئة لتعقيده واحتياجه لتقنيين بمستويات عالية، إلا إنه يحتاج لرعاية وطنية.

٤. الاعتماد على أسلوب التلعيب gamification

النفس البشرية تواقة للتقدير والتحفيز والمنافسة، والمستثمر يحب الإنفاق القليل. هذه المعادلة قربتها مبادئ التلعيب الكثير من التطبيقات والمواقع الإلكترونية الناجحة توظيف المعادلة بقوة، فمثلًا شبكات التواصل الاجتماعي، تُحافظ على مشتركيها متفاعلين دائمًا بشكل مجاني من خلال ( أيقونات للإعجاب like أو التعليق Comment أو إعادة النشر share/ repost) وكل هذه تجعل من المشتركين مستعدين لقضاء معظم الوقت انتظارًا لتقدير الآخرين لما نشروه، هذا ببساطة ما يُسمى بالتلعيب (أي استخدام قواعد اللعب في مواقف غير اللعب)، أذكر لكم على سبيل المثال أحد المواقع التي أنشر بها أبحاثي بالمجان لهم، وهو موقع أكاديميا Academia ، فعلى الرغم من إنه لا يمتلك بحثًا واحدًا وأنا من أزوده بالأبحاث( أنا وغيري طبعًا) يطلب مني الترقية مقابل مبلغ محدد. كل هذا لإنه يعمل على غرائز الإنسان مثل معرفة من رآه، من استشهد به، من أي مدينة ( حب الاستطلاع)، كما إن هذا الموقع يجذبني كثيرًا بتقديم عدد المشاهدات وترتيبي عالميًا بناء على زيارة موقعي ويعطيني جوائز افتراضية (مثل علامة كأس أفضل 5% من الناشرين عالميًا) وأنا لم ولن أستفد من أي أموال أو جوائز عينية، يعتمد فقط على حاجة البشر للتقدير، وتطبيقات أخرى تستخدم مثلًا الترقية من مستوى إلى مستوى مثل خرائط جوجل، كل مرة تقدم لهم صورة عن موقع ويحصل على مشاهدات يخبرك بالترقية لمستوى أعلى، فتسعد وتقدم المزيد (ماذا استفدت؟) فقط التقدير المعنوي واللعب على غرائز البشر سواء بحب الشهرة أو الترقية الاجتماعية أو التقدير أو غيره. وقس على ذلك الكثير من التطبيقات التعليمية التي تعتمد على التحفيز والشهرة بين المشتركين مثل سوكريتف وغيرها.

هنا السؤال لمن يُريد أن يؤسس مشروعه الابتكاري كيف يمكنك الاستفادة من مبادئ التلعيب المجانية في مشروعات تعليمية ناجحة وكبيرة، فكر جيدًا وستجد المئات من الفرص التي يمكن استغلال ذلك بها( ولا تنس أن للتلعيب ثلاثة جوانب مهمة وهي الآليات mechanics  يضعها المصممين، والتفاعلات dynamics كيف ستيعامل المستفيد مع التطبيق، و aesthetics  أقصد بها جماليات اللعبة وكيف ستبدو للمستخدم.

  • ٥. توظيف الذكاء الاصطناع

كثيرًا ما نسمع عن توظيف الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، حتى من قبل الحكومات، فمرة تسمع عن توظيف الحكومة الصينية لخاصية التعرف على وجوه المطلوبين من كاميرات الشارع، أو حتى رصد أمزجة الشعب، أو غيرها، لكن الأمر تجاوز هذا في مجال التعليم والتعلم، فالذكاء الاصطناعي مهم جدًا في ظل البيانات الضخمة Big data التي توفرها التطبيقات الإلكترونية، وفي مجال التعلم فإن العديد من التطبيقات الكبيرة تستخدم الذكاء الاصطناعي لزيادة انغماس المستخدم في التطبيق أو معرفة مستوى التقدم أو لتحسين مستوى العمليات والخدمات، فعلى سبيل المثال أحد أشهر تطبيقات التواصل الاجتماعي تويتر يوظف الذكاء الاصطناعي في محاربة الكلمات التي تحض على الكره، وقص الصور الأوتوماتيكية، وإدارة التايم لاين (الخط الزمني)، وتحسين مستوى المتابعة، وتخصيص الإعلانات.

كل ذلك يمكن وضعه في الحسبان من قبل الشركات الناشئة في مجال التعليم، ولو ألقينا نظرة على التطبيقات التعليمية لوجدنا أن الذكاء الاصطناعي متغلغل وبقوة بها، فعلى سبيل المثال تطبيق ELSA (لمساعد التحدث باللغة الإنجليزية)، فهذا التطبيق يتتبع تقدم المستفيد، ويحلل التحسن بمرور الوقت، وغيرها، وبناءً على هذه البيانات، يُنشئ تقريرًا مرحليًا لكل فرد. وتطبيق آخر وهو سقراطيك Socratic تطبيق تعليمي من Google. تم إنشاؤه لدعم تعليم مناهج مثل العلوم والرياضيات والأدب وغيرها، أهم ما يميزه التعرف على النص والكلام في جلب موارد التعلم الأكثر صلة بالنسبة للمستخدم.

هناك الكثير من الفرص لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم المرتكز إلى التطبيقات الإلكترونية، أيضًا هناك فرص استثمارية كبيرة للاستفادة منه في التطبيقات الموجودة فعلًا.

  • ٦- استغلال التغيرات العالمية والثقافات الجديدة المتولدة منها 

كل فترة تظهر على السطح كارثة أو وباء يخلق بعده استثمارًا جديدًا، هذا الاستثمار يرتكز لثقافة جديدة اكتسبت نتيجته، ونجد شركات عملاقة تولد من رحم هذه الكارثة، فعلى سبيل المثال لو نظرنا لتطبيق علي بابا الأشهر عالميًا فقد أصدر بعد انتشار فيروس سارس، ومع انتشار أزمة كورونا وتفاقمها انتشرت ثقافة التعلم من بُعد في كل العالم، حتى في الدول النامية، كل ذلك أدى إلى استثمارات كبيرة في هذا المجال.

على رائد الأعمال الذي يُريد الاستثمار في مجال التعليم أن يُفكر في الخدمة التي سيقدمها مستفيدًا مما خلفته تلك الأزمة. الآن السوق التعليمي مُتقبل لأي فكرة للتعلم من بُعد أو من خلال تطبيقات.

وفي وجهة نظري لو إن تطبيقًا إلكترونيا استطاع التغلب على المشكلات الاجتماعية الناتجة عن عدم الحضور للمدارس، ووظف الذكاء الاصطناعي في ذلك لانتشر انتشارًا كبيرًا.

  • ٧- استغلال الكفاءات المهدرة

أعود مرة أخرى إلى موقع أكاديميا، أو حتى ترجمة جوجل، كلاهما يعتمد كليًا على مشاركة المستخدمين في التطوير، لكن نوعية مستخدميه هنا ممن يمتلكون المهارات والمعرفة فهم يطورونه تطويرًا نوعيًا دون دفع أموال.

هنا لابد لمن يفكر في إنشاء مشروعه التعليمي الإلكتروني، أن يستفيد بذكاء من الكوادر البشرية المستعدة تطوعًا للتطوير. فلديك مستفيدين خبراء في المناهج وفي الاختبارات وفي استراتيجيات التعلم، كما إن لديك آباء خبراء لديهم حلول مبتكرة لتحديات حقيقية، يمكن توظيف كل ذلك.

  • ٨- الإعداد لسوق العمل

أصبحت غاية التعليم هو الإعداد لسوق العمل لدى الكثير من الحكومات، وذلك أمر معلن في كثير من استراتيجياتهم، والحاجة للتوظيف جعلت تطبيقات كثيرة تنتشر في السوق، ولا أقصد هنا تطبيقات التوظيف، وإنما التطبيقات التعليمية التقليدية. فأصبحت تخاطب حاجة الأسرة المستقبلية في تسليح أبنائهم بالمهارات اللازمة لسوق العمل، مثل تعلم اللغات أو اكتساب مهارات تقنية محددة، أو التدريب. فعلى سبيل المثال هناك تطبيق ناشئ اسمه بيتل Beetle تم إطلاق في يوليو 2021. كمجتمع لطلاب المدارس والكليات، ولديهم فكرة عن تجميع جميع المعلومات المتعلقة بالوظائف والمهارات والتدريب تحت سقف واحد.

والأسواق العربية بحاجة لمشروعات تعليمية مبتكرة تدعم المهارات التي يحتاجها سوق العمل خاصة في الأسواق الواعدة مثل السوق السعودي.

  • ٩- الارتكاز لمفهوم مجتمعات المعرفة (وأيضًا مجتمعات الممارسة)

أحببت تسمية هذه الخاصية بذلك الاسم لإن الكثير من التطبيقات التعليمية المعتمدة على فكرة الأوبرة تعتمد على وجود طرفين واحد لديه الخدمة والآخر مستفيد، إنما مجتمعات المعرفة والممارسة الكل يتبادل الأدوار، وتجد ذلك في تطبيقات تعلم خاصة على مستوى الجامعات. هذا النوع من التطبيقات يُساعد في القضاء على الفجوات المعرفية والمهارية بين المناطق من جميع أنحاء العالم. هناك المزيد من الفرص في هذا الاتجاه، والكثير من التطبيقات التي تعتمد على ذلك.

بالنهاية كانت هذه مساهمة أردت من خلالها إلقاء الضوء على الابتكار والريادة في مجال التعليم خاصة ونحن الآن في مرحلة ما بعد كورونا، وكما ذكرت أعلاه فإن هناك أسواق وثقافات جديدة تتولد بعد كل أزمة.

فقد ألقيت الضوء في هذا المقال على بعض السمات المشتركة بين التطبيقات الإلكترونية المستخدمة في التعلم وغيرها من التطبيقات، وقد اردت لفت نظر المُقدمين على الاستثمار في مجال التعليم لهذا الجانب.